[align=center]
اللحظات الصاخبة بصمت !!
لم يكن الخبر سارًا بالنسبة لي حينما ابتدأني به صاحبي ونحن نصعد الدرج إلى قاعات الامتحان.
- ثالث؟
- نعم!.. وإنجليزي.
- طيب.. أي ثالث؟
- طبيعي وشرعي.
- بعد..!!
مضيت إلى قاعة امتحان ثالث كجندي أسند إليه حراسة ثكنة عسكرية في ليلة معمعية. الطلاب أنفسهم هم الذين خلقوا هذا الجو المحتدم. أحدهم لم يترك أوراقه إلا بعد أن سحبت منه بعنف!! والآخر الذي يسير في الممر وهو يستجمع في ذهنه بعض المعلومات شارد النظرات كالأبله، والثالث الذي ظل واقفًا عند صاحبه الجالس يسأله ويذاكره في بعض مواضيع المنهج مقتنصًا تلك اللحظات.
- لا تنس كتابة الاسم ورقم الجلوس.
- كم الوقت يا أستاذ؟
- ثلاث ساعات.
وطفت بعض الالتفاتات المبتسمة وبعض الكلمات التي جاءت فرحًا بهذا الكسر لحاجز الرهبة ولإطلالة تلك الحميمية التي كنت أبادلهم بها أيام التدريس.. لكنها سرعان ما تلاشت كزبد ذهب جفاء. ثم لم يبق في القاعات شيء له صوت سوى الصمت!!.. ورنين الهاتف المنبعث من غرفة الوكيل.
أذكر أنني جئت إلى المدرسة مساءً وليس فيها أحد.. لقد كانت موحشة ذلك المساء.. وإذا ما خلا المكان المأهول من أهله فإنه يصبح موحشًا لمن زاره. إنه نفس الجو.. ولكن المدرسة اليوم محشوّة بكل الطلاب وكل العاملين فيها بل وزيادة.
قبل دقائق فقط كان الضجيج مرتفعًا في الممرات، ومشرف اللجان ينادي بأعلى صوته وهو يدفع هذا ويسحب أوراق ذاك. إنها الآن ممتلئة.. ولكن ليس ثمة إلا رؤوس بأيد تكتب بها.. ورؤوس بأعين تراقب بها!!
إن لبعض الطلاب عيونًا كالصقر. وبعضهم يقضي ليلة الامتحان في حشو ورقة غش صغيرة يحشر فيها عامة المنهج، ولسوء حظه وبسبب هذه الطريقة يكون قد حفظها قبل أن يستفيد منها!!
ظللت أتجول بصمت، ولو كان للتفكير العميق رائحة لما كنت تشم في ذلك المكان سوى رائحة الاحتراق!
لقد كانوا ينظرون إلي!! ولكنهم يعيشون في عالم آخر، عالم المعلومات في ثنايا الدفتر والمذكرة وصفحات الكتاب.. وفي صفحات المستقبل أيضًا. أحدهم كان يكتب نسبته المئوية بعد كل اختبار!!
وتظل خطط المستقبل بعد كل اختبار تعلو وتهبط تمامًا مثل مؤشر الأسهم! أما أنا فقد انتهيت من التخطيط للأعمال التي سوف أنجزها هذا اليوم! وبدأت بالتفكير فيما يمكنني القيام به تجاه الأشياء التي طالما تركتها في حيز الدراسة.. عالم ملتهب متوتر وعالم مسترخ.. ولكن لاتنس فقد مررنا بذات الطريق يومًا ما.
- خالد عيونك على الورقة.
قلتها وأنا أعرف أنها ستشوش تفكير الطلاب الجادين والذين يبدون أمامي منهمكين جدًا في الإجابة، ونظر إليّ خالد وهو يبتسم ابتسامة غير معتادة!! ووضع رأس سبابته على أرنبة أنفه، وهز رأسه مستجيبًا، ولكني في كل مرة أغفل عنه أجده قد مال برأسه وحملق في ورقة زميله.. وقفت بجانبه لحظات كان خلالها محنطًا!! وحينما طال به الصبر سألني عن فقرة من الفقرات.. خضفت برأسي ووجهته ثم همست في أذنه محذرًا له التحذير الأخير.. لما يبدر منه من التفات أو محاولة غش.
سرح بي التفكير وقد ظللت واقفًا ساعتين متواصلتين وأنا أدخل في الساعة الثالثة، ترى.. لو كنت معلمًا في المرحلة الابتدائية هل كنت سأقف هذا الوقوف؟ أكنت ألاقي من الطلاب كما ألاقي هنا؟ ما الذي ألجأني للتعليم في الثانوية؟ كثيرون هم الذين يهاجرون من المرحلة الثانوية إلى الابتدائية.. ولو بشق الأنفس، لم لا أرحل معهم؟.. واتسعت دائرة الحوار بيني وبين نفسي، وذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك متسائلاً: وهل الوزارة تعلم أن العمل في المراحل الثانوية يحتاج إلى جهد أكبر من الابتدائي؟ إذًا لم لا يكون هناك مشروع ترغيبي للعاملين في المرحلة الثانوية من مديرين ووكلاء ومعلمين.. وآخرين من دون ذلك؟!
- طرااااخ!!
لم يكن شيئًا محسوبًا.. قلم أحد الطلاب وقد سقط على الأرض فقط!! انتبهت لنفسي.. عدت إلى الدوران بين الطلاب التفت فجأة إلى خالد.. وإذا هو ملتفت بكامل جسمه جهة زميله وعيونه على ورقته. التهب الدم في عروقي.. واستشطت غضبًا.. فصحت به:
- خالد.. آخر إنذار لك.
ورفع الورقة بغضب وقال: والله ما فيها شيء.. أصلاً الأسئلة هذي ما تنحل.. والتفت إلى زملائه وهو يضحك متعمدًا شوشرة القاعة!
أحس بصراخ في داخلي يقول: يا وقح. أحس به يتلجلج في صدري.. كدت أن أقذف به حممًا ولكنني أطبقت على شفتي السفلى في حنق.. الحروف تتماوج في فمي مثل من يتمضمض بماء حار. وكالعادة.. ترتد إلى داخلي لتتحول إلى غثيان مزعج. وصلت به القحة حدًا لا يسعني الصبر معه.. أبرمت في داخلي أمرًا ما.. أعوذ بالله من الشيطان!!
.. خطوت إليه وأنا افتعل في نفسي الهدوء، وألبس له كل ملبس مثل فرن براق يستعر صدره باللهب.
لم أطق!!
طوقت عنقه بشدة... وكزني في بطني...!! ضربته على قفاه ضربه أطارت شماغه للأمام.. تبعثرت الأوراق! صياح مزعج صرخت به الطاولة، ونهض متحفزًا للرد!! يبدو أن الأمور قد خربت.. فليكن هذا اليوم يومًا للانتقام من كل ما مضى.. صورة لعمرو بن كلثوم ينادي على فرسه أشعث أغبر:
«ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا»
- والتربية؟!
- لم يعد هناك محل للتربية!!
- والقدوة؟
- ذهبت مع الذين لا يسألون الناس إلحافًا!! لا أدري أين ذهبت!1 اتركني الآن!
عدت إليه.. خمشت وجهه بأصابعي العشر.. وبكل قوتي.. رأيت عينين حمراوين ورأسًا شيطانيًا مثل طلع الزقوم.. الشيء الذي تأكدت منه أنني اشتفيت من كل ما أجد!!
- أستاذ.. يا أستاذ... أستاذي الكريم
- هاه.. انتبهت لنفسي وإذا أنا في مكاني مسمر العينين في وجه خالد، وإذا كل شيء على ما يرام.. والطلاب يكتبون بكل هدوء.. ووكيل المدرسة يمد لي ورقة توقيع المراقبة للفترة الثانية وهو يقول:
كل هذا تفكير بالزواج؟!
مبارك بن عبدالله المحيميد - القصيم - بريدة
[line]
* العنوان في المجلة من اختيار رئاسة التحرير
مجلة المعرفة عدد محرم
هنا[/align]