بدايه
اتمنى ان تقرا القصة قطعة واحدة دون تقطيع
واعتذر من الأخت هديل الحضيف لتغيير عنوان القصه فلتعذريني حبيبتي 
مكتب سنديان عتيق..
زجاجة حبر فارغة..
وباب نصف موصد..
المطر في الخارج يضرب الأرض بعنف..
نمت حول جسدي خيوط العنكبوت..
ويدي تمسك بشظايا جرح قديم..
دقات الساعة الرتيبة تتسابق للثانية عشرة..
بينما النوم يأخذ طريقة إلى كل شئ سواي !!
كحداء حزين.. عادت الذاكرة تستجدي ذكريات الألم..
تلك الذاكرة التي مافتئت أجرها لأزقة حي مطمور تحت تراب الزمن..
حيث كان النزف الأول
***
كنت أغادر عامي الثالث عشر, حينما سمعت صوت أمها صارخا قبل أن يولد الفجر بساعات قليلة..
علمت صباحا أن جارتنا أم البنين العشرة، قد أنجبت أخيرا.. بنتا
عرفا، لم تكن سوى ابنة لجيراننا, لكني أحسست بها شيئا آخرا..
شيئا مختلفا مختلف, كنت أبرر لنفسي هذا الأمر كوني وحيدا بلا إخوة, لكني اكتشفت ( متأخرا ) أن هذا السبب لم يكن سوى أرض هشة, تهاوت على حين غفلة من تحتي..
سألت أمي أن أذهب معها، ثم انتابني شعور أني سألتها أمرا منكرا,
فأردفت قائلا: لم أر في حياتي مولودا يا أمي
ضحكت.. وسمحت لي بمرافقتها
***
قلت لأم سعد: سموها ( ضـي )
حينما أخبرتني بأنهم لم يختاروا لها اسما بعد, لم اسمع بهذا الاسم من قبل، لكنه جاء على لساني في تلك اللحظة فقط.
وضعتها أمها بين يدي, سافرت عيناي في خريطة وجهها المنمنم, عيناها.. ما دلها الضياء بعد, خفضت رأسي وقبلت جينها ثم أعدتها لأمها.
رغم أولاد جيراننا العشرة، إلا أني لم أحس بجيرتهم إلا بعد ( ضي ).
أصبحت أتردد عليهم يوميا.. لا لسبب سواها.. حتى نهرتني أمي قائله بأني أصبحت رجلا وليس من اللائق أن ادخل بيت جيراننا..
ألف الناس رؤيتي مع ( ضي ) في السوق
بعد أن أكملت عامها الثاني .ضحكتها التي تملؤني فرحا .. عيناها الواسعتان .. لونها النجدي .. الطيني ، كل هذه أصبحت أساسا في حياتي ..
آخذها عصرا معي للسوق .. حيث أقف في دكان أبي واتركها تعبث بكل شئ .. واكتفي أنا بالضحك !
***
ضحكت كثيرا في ذاك المساء بعدما قالت لي أمي وهي تناولني فنجان القهوة: أم سعد تقول إن ( ضي ) لا تكاد تعرف سوى ( خــالد ) حتى أنا بالكاد تعرفني. فكيف بوالدها وإخوتها
علقت أمي.. قد يأتي يوم و بالكاد تعرفك
ثم أسفر المساء بابتسامة أبي..
***
لم أشعر بالزمن إلا ذاك الصباح، حينما طرقت الباب.. لتخرج إلي ( ضي ) وتخبرني بأن أمها رفضت أن تسمح لها بالخروج معي، لأنها كما تقول أمها أصبحت كبيرة، ومن _ العيب أن تخرج مع الرجال _
عمي: سأظل أشتري من دكانكم 0
كأنما تعزيني.. وابتسمت ثم توارت خلف الباب الذي أوصد ببطء
عمي !! بقيت ترن في أذني.. تتفجر
لم أشعر يوما الألم كشعوري به ذاك اليوم
استلقيت على فراشي, لأكتشف أن الفلك قد دار عشر دورات كاملة منذ أن أشرقت ( ضي ) ذات ليلة.
كنت أشعر بالجرح. بالغيظ.. بالجرح .. وبحزن دام..
كيف تمنعني أم سعد من ضي وقد قبلتها صباحا ما, بين عينيها !
كيف تمنعني وقد أضاءت حياتي لعشر سنوات ؟
كيف يطيب لها أن تغمر باقي أيامي بالظلام دون سابق إنذار ؟
ثم ألقيت نفسي أبكي.. وقدا ارتوت وسادتي دموعا
هبط الليل شيئا فشيئا على قلبي ، مر زمن دون أن اخرج من الغرفة . حتى قهوة المساء لم احتسيها مع أهلي
المرض بدأ يتسرب إلي ، وأخذت الحمى تسري في أوردتي
طرقت أمي الباب أول الليل ثم دخلت، راعها منظري, وجه محتقن, عرق نازف, وجسد مشتعل, لم تتكلم، أطالت النظر إلي ثم وضعت يدها على رأسي وأدنت فمها من أذني وهمست:
_ وما لذي يعنيك من أمر طفله ؟
أمي ! هي الشخص الوحيد الذي يكاد يفهمني في كل شئ، كنت متأكدا من أنها تعلم عمق ( ضي ) في حياتي ، واني مازلت أعدها جزءا مني ، قلت لأمي :
_ هي طفلة.. لكنها طفلتي.. أم سعد قالت ذات زمن أنها متعلقة بي.. فكيف تقطع حبلا ضفر بعشر سنين ؟
مسحت أمي وجهي بقماش مبلل, في محاولة يائسة لإطفاء الحمى التي سرعان ما اتقدت في سائر جسدي, ثم أويت لنوم متقطع حتى الفجر
***
ككل الأشياء التي تبدأ كبيرة ثم تصغر.. كانت ( ضي ) شعلة بدأت متوهجة ثم أخذت تخبو رويدا رويدا
تمر بالدكان الذي آل لي بعد وفاة والدي, تبتسم لي.. فأرد ابتسامتها بابتسامة باهتة.. فقدت ألوانها منذ أن حال بيننا ذاك الباب في صباح عمره زمن جريح.
لا يؤلمني أمر أكثر من قولها (" عمي ") رغم أنها غدت خارج أسواري, لازلت اكرهها منها, كم مرة كادت أن تجمح جيادي لأقول لها " خالد " فألجمها قبل أن تنطلق, ويبقى في قلبي طيف منها في طريق عودتي مساء, ثم اقتله حالما تبتلعني الدار.
اجتاح الركود حياتي, إلا من بعض الأعمال التي يتطلبها الدكان, ثم يعود الإيقاع الرتيب لساعتي
أمي.. السيدة التي تتربع على عرش قلبي، تسللت إلى غرفتي حيث الشتاء قد أثقل وطأته تلك الليلة حاملة ( الوجار ) ثم جلست بجواري على الفراش..
_ أتشعر بالبرد ؟
سألتني وهي تعرف الإجابة..
_ أشعر بالملل !!
زفرتها حارة كئيبة
_ بلغت هذا العمر ولم تتزوج ولا تريد أن تشعر بالملل ؟
أيقظت فيّ هاجسا غافيا, حاولت أن أعيده إلى نومه:
_ الزواج ليس ليس كل شئ..
_ لكنه سيعيد الألوان إلى حياتك..
أجبتها بصوت تخلله الجوى:
_ ما عاد في حياتي ألوان يا أمي !!
لم تكن تلك المرة الوحيدة التي حاولت بها أمي أن تطرق أبواب القلب المرتجة..
شئ خفي كان يدفعني للرفض في كل مرة.. كل مساء تأتي أمي وهي تحمل لي أسماء لتعرضها عليّ، وأبدو كمن يفتش عن ضائع ما.. وحينما لا أجده.. أرد بضاعتها إليها
_ تبحث عنها.. أليس كذلك ؟
لم أكن انتظر سؤالا كهذا, لا أدل دربا لإجابته.. فاكتفيت بالصمت, ولاذت بالانسحاب.
نهش التفكير كل مساحات عقلي تلك الليلة..
_ أحقا أنا ابحث عنها.. رغم كل مسافات البعد..
ثم صرخ بي الفجر دون أن تهتدي مراكبي.
***
عشت مشوشا, تأتي كل ( عصر ) إليّ لتشتري مني, حضورها يبني مدنا من غموض.. لا انتشي.. لا احزن.. لا افرح.. ولا أي شعور عادي آخر.. شعور مبهم.. يجعلني أرقب حضورها..وحسب ..
ويظل يقرعني سؤال: أتشعر بي ؟؟
وحينما يتسرب إلي صوتها بـ: يا ( عمي ) تنهار كل الاسئله, وأتقوقع كطير صغير مبلول
كنت اعنف نفسي: كيف تشرع سفن شعورك نحوها.. وقد كانت ذات يوم طفلة بين يديك.. لم تفتح عينيها بعد, ثم اذكر قبلتي على جبينها, فيغرق داخلي بفيضان ماء مالح..
***
مثل كل ليلة, تأتي أمي إلى فراشي, تتحدث معي قليلا, تذكرني بالذي لا أنساه:
_ خالد.. أحفادي
ضحكت بقلب مذبوح..
رمت السهم الأخير في جعبتها:
_ أمازلت تريدها ؟
ظللت أحدق بخشبات السقف دون أن أتكلم..
_ رجل بعمرك.. بحاجة إلى زوجة.. لا طفلة..
التفت إليها ببطء:
_ لكنها لم تعد طفلة .. إني اعد أيامها يا أمي
صمتت طويلا ثم همت بالخروج, أطياف كلمات كنت أراها تتعثر عند شفتيها..
_ أمي !!
قلتها وهي توشك أن تغلق الباب..
_ اصدقيني.. ما لذي كدت تقولينه ؟
عادت إلي وعيناها تمور في بحر من الدمع مائج..
_ خالد.. سامحني يا بني..
_ ضي.. ما بها ؟؟
خرج السؤال خائفا مبحوحا..
جرت حروفها بصعوبة:
_ خطبت.. و.. زواجها بات وشيكا
انقبض قلبي.. أحسست بزلزال يضرب أعماقي.. كل ما حولي غدا بلا ملامح..كائنات هلامية تموج..
أمنيتي.. أغنيتي.. ضحكتي .. و دمعتي.. تلاشت كما يحترق نجم السماء..
وعاد صوتها " عمي " يتأرجح داخلي ؛ فغاص الوجع عميقا .. عميقا ..
***
ضرب المرض جسد أمي المثقل بالسنين.. فأسرها فراشها, وبقيت معها, حتى سكنت أنفاسها في ليلة حالكة تماما..
عدت من الصلاة عليها, وفي قلبي ألف حزن.. و .. حزن
البيت موحش.. كمعبد بوذي تسكنه الأشباح, دخلت غرفتي واستلقيت على الفراش أرتقب مجيء أمي ككل ليلة. بدأ الصباح ميتا لم اسمع صوت الأواني في المطبخ, ولم أشم رائحة ( حمس ) القهوة
في الفناء بقيت أنتظر أن تأتي أمي, حتى أيقنت أنها رحلت لما خلف الأفق !!
وعلى أنقاض حزني.. نما حزن آخر وأينع..
كنت قد أكملت الثلاثين, وفي الليل تسلل إلي صوت طبول من مكان قريب. فضرب جذور الأسى في أعماق قلبي, وتحول كل أمل.. لحلم ليلة صيف
أغلقت على نفسي حجرة أمي.. وبكيت طويلا..
أحسست بحزن جامح.. ألم موجعا:
_ متى كانت آخر مرة بكيت فيها ؟
قمت الملم بقاياي, وخرجت متسربلا بالظلام, وأنا أغلق الباب للمرة الأخيرة، جرحت يدي جرحا مازلت انكأه كل ليلة.. كي لا انــــــســـى !
مررت بدار ( ضي ).. وتلوت تراتيل الوداع الأخيرة..
كان ثمة جدران طين عتيقة..
_ نور _