كتب الشيخ عبدالعزيز بن فيصل الراجحي مقالا بعنوان (وقفات مع اعترافات
أصحاب التفجيرات) نشر في جريدة الرياض يوم الجمعة الماضي 24/11/1424هـ،
فند فيه مزاعم وزارة المعارف وغيرها ومزاعم العلمانيين بأن في مناهجنا دعوة
وتأصيلا للإرهاب ، وبين خلو مناهجنا من تلك المزاعم وسلامتها :
[gl]وقفات مع اعترافات أصحاب التفجيرات[/gl]
الحمد لله ، والصّلاة والسلام على رسول الله × وبعد :
فقد تا بعنا - كما تابع غيرنا - البيان التوضيحي الصادر من وزارة الداخلية مساء الاثنين 20/11/1424هـ ، وفيه : اعترافات جملة مِن الشباب ، مِمَّنْ كانوا على طريق فاسد ، ومنهج منحرف ، فهداهم الله وبصَّرهم فيما كانوا فيه ، فرجعوا عن الباطل إلى الحق ، وعن الغي إلى الرشد .
وقد كانت اعترافاتهم تلك ، جزءًا من أفكار وتوجهات جملتهم الباقية الآن ، التي قامت بالأعمال الإجرامية المشينة في بلادنا في الأشهر الخالية ، من تفجير وتدمير وقتل لمسلمين ومعاهدين ومستأمنين وأطفال ونساء . فكان لزاما على العلماء وطلاب العلم والمثقفين ومحبي الخير لهذه البلاد : أَنْ يدرسوا تلك الاعترافات وما فيها مِن توجّهات ، لنعرفَ مِن أين أُتِيَ شـبابنا وأبناؤنا ، فنسدّ الثغرات ، ونعرف العثرات ، قبل سَـكـْب العبرات والحسرات .
وقد ظهر لي مِن اعترافاتهم أمورٌ عِدّة ، أجملها في خمس وقفات :
1- إحداها : أَنَّ رؤوس منظريهم ودعاتهم ، يستغلون جهل أحداث الأسنان في مسائل الإيمان ، والتكفير ، ونواقض الإسلام ، والجهاد ، وحقوق أهل الذّمّة ، مِن مستأمنين ومعاهدين وغيرها .
ويستغلون جهلهم في فهم كثير مِن النصوص الشرعية في ذلك ، فيلبسون عليهم الحق بالباطل ، ويلوون أعناق الأدلة ، لتستقيم لهم استدلالاتهم ، وأخشى ما يخشى منه هؤلاء الرؤوس : العلماء الربانيون ، وطلاب العلم المهتدون المنصفون ، أَنْ يكشفوا عوارهم ، ويبينوا فسادهم ، بالأدلة الشرعية . لهذا تجدهم يحذّرون منهم ، ويحاولون إبعاد الناشئة والناس عنهم ، ولا يوصون إلا بأنفسهم وأشباههم !
لهذا الأمر : يجب على ولاة أمرنا وعلمائنا وكلّ مسؤول بما في يده ويستطيعه : بيانُ الحق في هذه المسائل ، ونشرُ العلم الذي به يُرْفـَعُ الجهل ، وعقد الدّروس والمحاضرات ، وتأليف المؤلفات في ذلك ، واستثمار وسائل الإعلام كافة في نشر ذلك .
كما أَنَّ هذا الأمر ، يدلنا على فساد رأي مَنْ يَرَى وجوب حذف مسائل الإيمان والتكفير ونواقض الإسلام مِن مناهجنا الدراسية ! وأنـّها - بزعمه- تسبّبتْ في هذه الانحرافات الفكرية .
والصّوابُ : أَنّ مناهجنا - مع ما فيها من خير - بحاجّةٍ ماسّةٍ إلى تكثيف هذه المواضيع ، لا إلى حذفها . وبحاجةٍ إلى تحصين شبابنا وناشئتنا أن يُسْتغلَّ ضعفهم وجهلهم في هذه الأبواب ، فيـُدْخـَل عليهم منه ، وقد حدث هذا واستغله المبطلون كما سبق .
ولو قدر : أَنَّ هذه الأبواب والمسائل غير موجودة في مناهجنا : لكان مِن الدّين والحكمة والعقل إضافتـُها لا حذفـُها !
وحذفُ هذهِ الأبواب : سيكون له تبعاتٌ سيئة ٌ كثيرة ٌ، وسيكونُ بابًا كبيرًا لشرٍّ كثير ، ومتى كان الدّاء دواءً ! والمرضُ شفاءً !
وهذا بعينه ما يريدُه أصحابُ الأفكار الهدّامة : أَنْ تخلو مناهجُنا مِمّا يُقاومُ فكرَهم المنحرف ، ويُبْقي لهم الميدانَ خاليا دون عِلـْمٍ صحيح ، ورأي رشيد . فيقرّرون ما يريدون ، ويضعون ما يشاؤون ويحبون !
وقد ذكر المعترفون في اعترافاتهم المذكورة : أَنّ دعاة الضّلالة الذين أضلـّوهم ، استغلوا جهلهم ، فأدخلوا عليهم أمورًا فاسدة باسم الدّين والشّرع . وخافوا على أولئك الشباب أَنْ يُبْصروا الحقَّ ، لو جلسوا إلى أحد المشايخ والعلماء : فحذّروهم مِنهم !
فهل تساعدُ الجهاتُ التعليمية في بلادنا - حفظها الله - دعاة الضّلالة أولئك ، فتحذف تلك الأمور مِن مناهجنا ، لتخلو السّاحة للمنحرفين ، ويَعُمّ الجهلُ في تلك المسائل مِن الدّين ؟! أخشى أَنْ يكون ذلك .
فإن كان : فسيستغلـّه المنحرفون ، ورؤوس الضّلال ، بنشوء جيل لم يدرس تلك الأبواب ، ولم يعرف ضوابط تلك الأحكام بكلام أهل العلم الربانيين العدول ، فيدخلون على الناشئة ما شاؤوا .
لهذا فإني أُكرّر نصحي ودعوتي إلى المسؤولين في وزارة التربية والتعليم كافة ، أَنْ يكثفوا تدريس هذه الأبواب بكلام أهل العلم الربانيين ، وأَنْ يردّوا إلى كتب التّوحيد ما حذفوه منها ، فبالعلم يُرْفـَعُ الجهل ، وبالحق يظهر الباطل ، ولا يُرْفـَعُ الجهل بالجهل ، ولا يتضح الباطل بالباطل .
2- الوقفة الثانية : أَنّ الكتب والأشرطة التي أضلـَّتْ هؤلاء الشباب ، كتبُ وأشرطة معاصرين منحرفين مِن خارج البلاد ، قد ذكر المعترفون أسماءَهم . فالواجب حينئذ مَنْعُها - وقد مُنِعَتْ- ومحاسبة مروّجيها وناشريها والمثنين عليها ، وتحذيرُ العلماء منها ومِن مؤلـّفيها ، وتَعـَيُّنُ الرّدّ عليها وعلى أصحابها ، وتفنيدُ شبهاتهم ، ليبطلَ أثرُها ، ويُقـْطع وَدَجُها .
وعلى هذا : فما يزعمُه ويقوله المرجفون وغيرهم ، مِن طعنهم في جملة مِن أئمّة الإسلام ، وعلمائه الأعلام ، كشيخي الإسلام ابن تيمية ومحمّد بن عبد الوهّاب وأئمّة الدّعوة رحمهم الله : باطل ، ولا صلة لهم بضلال هؤلاء .
حتى على تقدير أَنّ أحدًا مِن هؤلاء المنحرفين استدلَّ بشيء مِن كلامهم رحمهم الله على أفعاله الفاسدة : فإنّ ذلك لا يدلّ على قولهم بها ، وإقرارهم لها ، فهم قد استدلوا على أفعالهم القبيحة بآيات وأحاديث ، لم يكن استدلالهم بها في محلـّه ولا في موضعه ، كما هو استدلالهم بكلام أولئك الأئمّة والعلماء ليس في مكانه ولا محلـّه .
لهذا قال الإمام العلامة ابن قيم الجوزية في (نونيته) الشهيرة في الخوارج لمـّا استدلوا بالكتاب والسّـنّة على جرائمِهم ومعتقداتهم الفاسدة :
ولهم نصوص قصروا في فهمها فأتوا من التقصير في العرفان
أي : أَنّ لهم نصوصا مِن الكتاب والسّـنّة استدلوا بها على استباحة قتل المؤمنين ، وأخذ أموالهم ، وسبي نسائهم ، لكن استدلالهم بها باطل ، لتقصيرهم وجهلهم في فهمها ، فكان تقصيرهم ذلك وجهلهم لمعانيها والمراد بها ، سـبـبًا لضلالهم وبَغْيهم .
3- الوقفة الثالثة : تدينهم بسَبّ ولاة الأمر والعلماء في بلادنا المباركة خاصة ، وهذا يدلّ على أمور فاسدة عدة ، منها :
• مخالفتهم للأدلة الصحيحة في وجوب النّصح لولاة الأمر ، وسـَتْر عيوبهم ، وجَمْع شَمْل النّاس عليهم ، ليستقيمَ أمر الدّنيا والدّين ، وأَنْ يُدْعى لهم بالتّوفيق والسّداد والرّشاد ، فاستقامة ولاة الأمر استقامة ٌ لأمور النّاس عامّة في دينهم ودُنياهم .
• أَنّ مشايخنا وعلماءنا مُباينون مُخالفون لأصحاب هذه الأفكار والانحرافات ، غير مُوافقين لهم . لذلك يشتمهم هؤلاء المنحرفون ، ويتدينون بانتقاصهم ، ويتقربون إلى الله بسَـبِّهم ، بل قد بلغ الحالُ بجملة منهم إلى تكفيرهم !
وعلى هذا : فمُحاولة بعض أهل الأهواء الآخرين والمـُغرضين ، رَبـْط َ علمائنا واعتقاداتهم بأرباب هذه الأفكار : محاولة ٌ فاشلة ، ورَبْط فاسد باطل ، دافعُه أمران خبيثان :
أحدهما : إرادتُهم الطعنَ في الدّين وحملتِه ، شفاءً لنفوسِهم المريضةِ السّقيمة .
والثاني : تشريعُ أعمال أولئك المجرمين ، برَبْطِها بالعلماء ، وزَعْمِهم أَنـَّهم يقولون بها ، ويعتقدونها ، ويدرِّسونها ! وهذا باطل ، وهو نتيجة لمزاعمِهم الفاسدة .
وقد علمنا جميعا ، مخالفة علمائنا ومشايخنا لأصحاب هذه الأفكار مخالفة تامّة ً، مِن بياناتهم الكثيرة الصّادرة بحق هؤلاء ، ومِنْ دروسهم ومحاضراتهم . وعلمناه مِنْ بُغْض ِ المنحرفين لهم ، وشتمهم إيّاهم ، وكفى بذلك شهيدا .
4- الوقفة الرابعة : أَنَّ رؤوس منظريهم ودعاتهم يستهدفون أحداث الأسنان ، لجهلهم ، وقلـّة تجربتهم ، وضعفهم الفطري . وهذا كما تقدّم يوجب تعليمهم وتحصينهم مِن ذلك بالعلم الشرعي الصّحيح مِن أهله .
كما يُوجب أمرًا آخر ، وهو حِرْصُ أوليائهم وآبائهم عليهم ، ووجوب متابعتهم لهم ، ومعرفة توجهاتهم وتوجهات أصحابهم وجلسائهم ، وإلى أين تكون أسفارهم؟ ومع مَنْ تكون؟ واختبار الآباء والمعلمين وَمَنْ في حكمهم لهم ، ليتنبّهوا إلى كلِّ فكر طارئ خبيث ، ليئدوه في مَهْدِهِ قبل اشتداد عوده .
ولا شك أَنَّ ربط الناشئة بالعلماء المعتبرين ، ولزومهم مجالسهم ودروسهم ، فيه خير كبير للأمّة ، وعصمة لهم ، ولجلسائهم ومجتمعهم والناس كافة . وقد اعترف أولئك المتراجعون أنهم كانوا ينفـّرون مِمّن لديه شيء مِن العلم الشرعي ، لئلا يُفسِد عليهم البقية !
وتعميم وسائل الإعلام في بلادنا لدروس العلماء ، وتكثيفـُها سيكون له بمشيئة الله أثرٌ نافع كبير ، وأجر كثير ، ليصلَ العلمُ الصحيح لكلّ حاضر وباد . وهذا هو الواجب مِن حيث الأصل في هذه الأحوال وفي غيرها ، فلا استقامة للناس بغير استقامتهم على الشرع .
5- الوقفة الخامسة : أَنّ هؤلاء الشباب ، قد تدينوا بأعمالهم الفاسدة ، وتدينوا بسَبِّ ولاة الأمر والعلماء ، والواجبُ في هذا أمور ثلاثة :
أحدها : بيانُ حق ولي الأمر بالدليل الشّرعي ، وأَنّ له بيعة وسمعًا وطاعة في غير معصية الله عز وجل ، وبيانُ لوازم بيعتهم .
الثاني : بيان مكانة أهل العلم ، وحرمة الخوض في أعراضهم ، وتبجيلهم ، والرّفع مِن شأنهم الرّفيع ، لئلا يُستهانَ بما حملوه مِن العلم ، وبأحكام الشّرع والدّين ، فيفسد بسَبِّ الولاة أمر الدنيا ، ويفسد بسَبّ العلماء أمر الآخرة .
وما نراه مِن ردود بعض المنحرفين فكريًّا ، مِن تيارات فكرية منحرفة أخرى على بعض علمائنا الرّبانيين في بعض الصحف ، ونزاعُ أولئك المنحرفين لهم في أحكام شرعيّة ، علماؤنا أعرف وأعلم بها وبأدلتها ومراد الشارع فيها : لهو شَـرّ كبير ، وفتح باب لشر كثير ، وتجرئ الناشئة وغيرهم على الرّدّ على العلماء ، وانتقاصهم ونزاعهم .
ومعالم الدين ، وأحكام الشريعة منوطة بسلامة الولاة والعلماء ، ليستقيمَ أمرُ الدّين والدنيا ، وتقامَ الشعائر والحدود وتأمنَ السّـبل ، وكما قال الأول :
لولا الأئمة لم تأمن لنا سبل وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
هذا بعض ما أردتُ إيقاف إخواني عليه ، وتذكيرهم به ، نسأل الله عز وجل أَنْ يهدي ضَالّ المسلمين ، ويردَّ مَنْ ضَلَّ مِن شبابنا إلينا ، وأَنْ يراجعوا أنفسَهم فيما جنوا به عليها ، وعلى أهاليهم ، ومجتمعهم والمسلمين ، وأَنْ يوفـّق ولاة أمرنا ، وعلماءنا للخير والرّشاد (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
عبد العزيز بن فيصل الراجحي
الثلاثاء 21/11/1424هـ