عندما يدلف المساء ويتشرنق الكون بالصمت تبدو الأزمنة أكثر قربا ، الصحيفة تتململ بين أصابعي كأنما سئمت تقليبي لها ، نظرت إلى الساعة الذهبية في معصمي ، فشغلني منظرها عن معرفة الزمن . همست في ذل مصطنع : أوه ما أجملها !! ومع ذلك فعقاربها تنطق من بين سجن الصمت . لقد أزف الموعد .!
لابد إنهن الآن في الجلسة المعتادة .. هذه تضحك .. والأخرى تصلح من وضع خصلات شعرها المصبوغ بألوان متعددة .. أنا الوحيدة التي كنت أضفر شعري .. مما جعل إحداهن تنفجر بالضحك عندما لامست ضفيرتي ثوبها الحريري المزركش بينما هتفت الأخرى بأسف : مسكين زوجها .. امرأة من القرون الوسطى!!
مما جعلني أغادرهن
ة وأقسمت ألا أعود إلا وقد أصبحت شيئا جديدا .
" أم سالي " هي الوحيدة التي همست في أذني مواسية وأنها ستأخذني إلى مكان ما
صمت لفترة .. سأغدو .. لا أدري ماذا سأغدو ولكن سأصبح شيئا مثيرا لإعجابهن ! نظرت إلى شعري بإعجاب واحتضنته بحنان ..
لرائحته عبير "أراكة " تقبع في الأعالي تغزل العطر أناشيداً ..
هاهو الحنين يمتطى داخلي ، يعود موجا يغمر شط الرؤى .. تغتسل عند أقدامه السنون ...
بأشواق أم تشيع وحيدها إلى بطون السباع واجواف الحيتان ..
هنالك تقف الأم (صنوبرة) شامخة تقبل وليدها بين عينيه .. قبلة امتزجت بأثر مقدس يتهجد على جبينه ويتسع كل يوم ..
الزمن يلج بقوة .. عدت أتذكر موعد "أم سالي" والمكان الذي ستأخذني إليه .. تخيلته غارقا في لجة من الأنوار ..لم أذهب إليه من قبل ولكني سمعت عنه الكثير
الصالات الكبيرة والجدر ذات المرايا الضخمة والرسوم المختلفة .. هذه كانت حديث الستينات وتلك فازت بالأوسكار .. والصورة الموضوعة في صدر الصالة لملكة جمال الكون ..
ساعة أو أقل والأيدي تعبث بي كما تشاء وأخرج بعدها لوحة سريالية .. أبدعها صاحبها بعد حالة سكر شديدة ..
ساعة أو أقل ويتنفس الجميع الصعداء .. لن أعود تلك التي تتعثر بضفيرتها ، سأريهم أظفاري الطويلة ، سيصغرون من الإعجاب وقد أغرزها في وجه إحداهن حتى يتأكد الجميع أنني أصبحت ..
تحسست الصحيفة .. عدت أقلبها من جديد .. زلزال في ... مجاعة في ... عواصف في ... !!
كلما حدقت فيها عادت إلي ذكرى المرأة (الصنوبرية) التي تشمخ على قمم السنين تخيلتها تقبع في المحراب والسماء تصغي لنجواها .. حيث يولد الفداء خلف حدود المفازات ..
سنابل الخيل تدمي مسامع الليل الصامت .. يا أهل الثغور حي على العطاء .. حي على الجهاد ..
تتأوه (الصنوبرة) .. ينبض قلبها بالحسرة تستفزها الحروف شعلة تحرق ظلام الديجور ..
تتمدد أصابع في الجيوب بحثا عن شيء ما .. تتلمس ظهرها .. تتعثر يدها بضفيرتها ..تبتسم .. يعاودها الدفء ..
تتذكر ذلك الذي شيعته إلى بطون السباع .. ذلك الذي تتوقد الشمس بين عينيه .
تتوقد الضفيرة بين أصابعها وتترنح على شفة الموسى !
الليل والخيل والضفائر وصليل مثقل بالنور تنغرز في الأكباد السوداء ..
عدت أتلمس شعري .. وللوقت وقع كضجيج المراكب في أول أيام الربيع ..
طرقات على الباب .. أنهض لأفتح ..
يشتعل دمي بصوت يناغيني .. أصغي ..
الصوت يتمدد صليلا وصهيلا وأشياء أخرى " فإن الدرب غير الدرب "
"أم سالي" لم تدعني أكمل عبارات الترحيب:
- جئت على الموعد ألم تستعدي بعد ؟؟؟ هيا يا عزيزتي ..
بقيت صامتة .. وأشرت إلى الصحيفة .. وقلت بصوت مهموس:
- انظري هؤلاء أحق بالاهتمام !!
صاحت أم سالي:
- حقا ؟! هل أصبحت الصحف هنا تنشر إعلانا لصالونات التجميل ؟ لا أظن أن هنالك أفضل من الصالون الذي اخترته لك !!
كتمت ضحكة كادت أن تفلت مني وقلت بسخرية مريرة :
- لا لن تبلغ الصحف هذه الدرجة من التحقر ! ولكن انظري ..
قالت وهي تنظر إلى إظفارها الملونة:
- هذه الرسوم تحزنني والحزن عدو للجمال كما تعلمين ! على كل حال هذا الكلام ليس وقته الآن ! أصغي إلي .. لقد اخترت لك تسريحة تلائم وجهك المستدير .. ستبدين رائعة .!!
التحفت الصمت والنور يثقل أحلامي .. رمقت شعري بعيني (صنوبرة) تشد وانفلتت لحظة شوق وعطاء تلتفع الحنين !!
وضعت شعري بين يدي الزائرة .. همست:
- أرجوك .. ضفريه لي !!
فغرت "أم سالي " فاها !!! هطلت الدهشة من ملامحها !!
أمسكت شعري بيديها المرتعشتين وأخذت تضفره بصمت هادر يرشق الليل بالصليل !!!
بقلم /نسيبة عبد العزيز مشوح
منقوووووووووووووول