.
.
الولايَاتُ الغَربيَّة لمَدِينَة ُبُرَيْدَة !!
تَحتَضِنُ الدِّيار النَّجديَّة بَينَ حَنَاياهَا مَدينَةُ بُريدَة .. تِلكـَ التي عَمَرتْ أسوارَها عَبر الأزمَانَ التي مَرَّت بها .. بِمَواقِفهَا وَمَجدِهَا وَرِجَالِ العِلمِ الذينَ تَرعرَعوا بينَ أحَضَانِها .. وَقَضوا صِبَاهم عَلى ثَراها .. مَدينَةٌ تَجَري مِنهَا وديانُ العِلمِ حَتى غَذّت به مَشَارِقَ الأرضِ وَمَغَارِبِها .
مَدِينَةُ بُرَيدَة تِلكَ التي حَضَنَت أيَّامُ طُفولَتي .. وَمَهَّدَت أرضهَا لأبدَأ َ عَليهَا خُطوَتي .. ثُمَ عُثتُ فيها مَراحِلَ الصِّبا وَقد غَضَضَتِ الطَّرفَ عَنِّي..
لِمَدينَة بُرَيدَة مَجدٌ أخشى أن يَكونَ يومَاً مِنْ الأيامِ ماضٍ يُسدَلُ السِّتَارُ عَليهِ و يُحثَا التّرابُ على مَجدٍ حَفرَ نَفسَهُ عَلى جَبينِ التَّاريخ .
رُغمَ مَا لاقتهُ مِمن سَعى لِتشويهِ سُمعَتِها.. والانتِقاصُ مِن قَدرِها .. وَالتَقليلُ مِن ذَاكـَ الشَّأنُ الذي تَميَّزت بِه .. إلا أن بُريدَةُ لا تَذكُرُ أفعَالهَا وَصنَائعِها .. ولَكن المَعروفَ هوَ مَن يسمو فَخراً بالإنِتِسابِ لِهَذهـِ المَدينَةُ وَأهلهَا .
للمَعلومِيَّة بُريدَة لَم تَقِف صَامِدَة عَلى مَا كَانَت عَليهِ .. بل أصبَحت بَين أيدي أهلَها ومَن دَخَلَ عَليها .. فُهنَاكـَ مَن كَان وَلا يزالُ يُلقي الدّروسِ ويَرفعُ رايَةَ العِلمِ شَامِخَة في سَمَائِهَا .. وَهُنَاكـَ مَن دَخَلَ عَليهَا وَخانَها وَأقحَمَ فيهَا مَالا تَرضَاهـُ هَذهـِ المَدينَةُ ولا أهلِهَا مُتَصنِّعاً التشويهَ عليهاَ والتَّعُللَ بِموَاكَبَة التَّطَورِ وَعصورِها .
في مَدينَةِ بُريدَة تَقعُ أريَافٌ عـَفوَاً بل ولاياتٌ في غَربِها .. مَازَالت تَحفَظُ مِن مَجدِ المَاضي وعَصرِهـِ شَيئاً يَسيراً .. ليتَهُ بَقيَ مُحَافَظَاً عَليهِ لأنه هُو المَجدُ الذي تَمَيَّزت بهِ هَذهـِ المَدينَة.
هَذهـِ الولايَاتُ لَيتَها كَانت قُنصُليَّاتٌ وَسَفَاراتٌ لِعصورِ الصَّحَابَةِ والسَّلَفِ والتَّابعينَ.. فَهي الأقرَبُ والأشبَهُ لِحَالِهِم وَحيَاتِهم .
حَتى أيَّامَ كُنتُ في أحضَانِ مَدينَة بُريدَة لم أتَشَرَّفُ يوماً بِزيَارَةِ هَذهـِ الولاياتُ .. غَيرَ أني كُنتُ أسمَعُ عنَها وَعن أهلِهَا وَلم أكُن أعلمُ هل مَا يَصِلُني حَقيقَةٌ أم لا ؟! وَمَن رأى لا كَمَن سَمِع .
الولايَاتُ الغَربيَّةُ لِمَدينَةُ بُريدَة .. في الحَقيقَةُ لَم تَكُن ولايَاتٌ بأحجَامِها بَل وِلايَاتٌ بِصِيتِها كَما يُقال.
والولاياتُ هَذهـِ قَد أحدَثت زَوبَعَةٌ إعلامِيَّة وَضَجيجٌ مُستَصنَعٌ للنَّيلِ مِنها .. والأشدُ والأنكَى مَا سَمعنَا بِه من هَدمِ أحدِ المَسَاجِدِ الذي يَقعُ في أحضَانِ إحدَى هذهـِ الولايات .. وَكأنَّهُ المَسجِدَ الضِّرار !!
في زِيَارَة سَريعَةٌ لِهذهـِ المَدينَة قَررتُ أن آخِذَ جَولَة بينَ رُبوعِ هَذهـِ الأريافِ عَفواً بلِ الولايات ..
سِرتُ بِكل حَذَرٍ بَينَ طُرِقها .. هُدوءٌ يَعُم الأرجاء .. وَسُكونٌ إذا حَلَّ المَسَاء.. خَرَجْتُ مَرّةً أخرى في الغدِ مِن بَينِ ضِلالِ نَخيلِها مُتمَنيَّاً أن أعيشُ حَياتي كَهذهـِ العِيشَة.. بَسَاطَةٌ في الحَياة .. وتآلفٌ في القلوبِ .. و عَيشيَ يَتَذَوَّقَه جَميع جِيرَاني هَكَذا قَالَ أحَدُ سُكَّانِهَا .. قِمَّة في السَّعَادَة.
الجَفَاءُ مَزروعٌ في النَّفوسِ البَشريَة .. لكِنَّها تَختَلِفُ هَذهـِ النٌّفوسِ في تَحاشي الجَفَاءَ في أوقَاتٍ لَيسَت مُنَاسِبَة لِذلكَ وَمَع مَن تَستَخدِمُه.
مَررتُ يَومَ تواجدي عَبر تِلكـَ الطُّرقِ لِهَذهـِ الولايَاتُ بِمَزرَعَة عَلى قَارِعَة الطّريقِ مَكشوفَة.. يَتَوسَّطُها بَينَ [ سَواقِيها ] شَيخٌ كَبيرٌ في السِّنِ بِقمِيصِهِ وَطَاقيتِهِ وَشمَاغه عَلى كَتِفِهِ يَحلُبُ بَقَرَتَه ..
فَحدَّثتني نَفسي أن أتَرَجَّلَ وألقي السَّلامَ عَليهِ .. رُبمَا أن فِعليَ يُعد عِندَ بَعضِ النَّاسِ مِن [ البجَاحةِ أو الشَّرَافَة ] ، وَكُلن لا يُلامُ عَلى تَفكِيرِ غيرِهـ .
جَعلتُ أسيرُ عَلى الرِّمَالِ حَذِراً ومُتَحَاشياً مَجَاري المِيَاهـ خَشْيَتَ أن أصنَعَ الأذى فَتقومُ عَليَّ القيَامَة.. لأنَّ الكِبَارَ مَعروفاً عَنهم لَهيبٌ يَشتَعِلُ في دِمَائِهم مِن الحَرارَة.
سَلَّمتُ عَليهِ فَردَّ السلامَ وَهوَ مَازالَ مُطَأطئاً رَأسَهُ.. فَخَشيتُ أن الوَقتَ غَيرَ مُنَاسِباً فَودَّعتهُ في الحَال .. فَما أن أدَرتُ نَفسي مُودِّعُهُ حَتى قال : [ إيه أنت من عيال الدنيا ما تصلح لنا ... ] ثُمَّ استَلمَ يضَربُ بالملامَةِ عليَّ .. فأنا ابنُ الدُّنيا وَكأنني مِن كَوكَبٍ آخر .. لَكنِّي أحبَبتُه رُغم ذاكـَ التوبيخُ أو الجَفاءَ مِنه.
في ولاية أخرى !!
جَعلتُ أسيرُ بَين بَعضِ الأحياءِ .. مِنهَا الشَّعبيَةُ القَديمَة ومِنها الجَديدُ في بِنَائه وأخرى خَاليةٌ قَد إستَسلَمت للسُّقوطِ فَفَرَّ منهَا أهلُهَا .
الكِتَابَةُ عَلى الجِدرَانِ كُلُّها أخلاقٌ مَنبُوذَةٌ وَتَتَعدَّى حُدودَ الأدَبِ.. لَكِنَّها تُنبؤُ عمَّا في قَلبِ مَن خطَّ عَلى هَذا الجِدَار.
فَكَثِيراً مَا تَنتَحِبُ الجدرَانِ مِن هَذهـِ العِبَاراتُ [ الهلالُ بَطل ، النَّصرُ عَسَل ، أبو فلان قَمرٌ طَل ، وأحبك حتى في الحُلم ... إلخ ] .
عِبَارَاتٌ تَحكي مَدى التَّربيةَ التي عَاشها هؤلاءِ والبيئَةَ التي أَخرَجَتهُم لَنا.. فَنَجد أصحَاب العبَارتَانِ الأولى قَد عَاشوا وأفنَوا أعمَارهَم عِشقاً للكُرَةِ وأهلِهَا.. والعِبارتَانِ التَّاليتَانِ تَعُبِّرُ عَمَّن خَطّوهُما بأنهما عاشا عَلى وَهمِ الحُبِّ وتَذَوَّقا مَرَارَةَ عَذَابِهِ.. رُبَّما
إلا أنني وَجدتُ في إحدى الولاياتُ كَلِمَاتٌ عَلى الجِدَارِ تُحَكي مَدى زَرعِ مَعنى العُبودِيَّةُ في هَؤلاءِ للهِ وَحدَهُ سُبحَانهُ وَتعَالى والإذلالِ والخضوعِ له .. فَقَد قَرَأتُ فِيهَا :
[ بيت العبد الفقير إلى الله فلان بن فلان الفلان ]
أحَبَبَتُ أنْ أَتَسَلى عَلى بَوحِ القَلمـْ فلا أريدُ مَلامَةً ولا أحَدَاً يُجَامِل !!
أخيراً فما كان من صواب فمن الله وما كان من خطأ فمن نفسي والشيطان
عذراً .. فعذراً .. ثم عذراً على الإطالة وركاكة الأسلوب
دمتم بحفظ الإله ورعايته
.
.