في هذه الدنيا .. كل شيء له نهاية، وقبل ذلك يكون له بداية، فعبر مسافات زمانية معينة ـ قد تطول وقد تقصر ـ نصل إلى النهاية بعد أن بدأنا من البداية ..
والبداية والنهاية .. تكونان ذواتي علامات واضحة للعيان .. بحيث يراها كل شخص بوضوح .. ويعرف أنه بدأ وأنه انتهى !.
ما سبق .. إشكالية زمانية واضحة ومعروفة .. إلا أنني أرى حالة واحدة في هذه الدنيا تخرج عن الإطار والقانون الدنيوي الذي ذكرناه !.
حيث أرى أن حالة "المحب" .. حالة شاذة عن هذا القانون الدنيوي، فلا نهاية محتومة لها، وكذا البداية تكون غير واضحة المعالم والسطور ..! .
ربما يكون من غير الممكن شرح مثل هذه القضية على أناس لا تحتمل قلوبهم سوى دم أحمر فقط !! .
لكن !.. لأصحاب القلوب التي سكن فيها حب أبدي، تبدو العملية واضحة بل لربما لا يحتاج الأمر إلى إيضاح !! .
.. بدايات الحب، نظرات تائهة .. بل لا تعتمد على أدنى أساس ولا أي منطلق تنطلق منه ..
بدايات الحب .. صدفة للزمان والمكان .. تقف من خلالها .. وتتطلع بكل صدق إليه .. وتسمّر عينيك في عينيه .. وتقف أطرافك ثابتة وصامدة! .. وتتمنى خلال هذه اللحظة أن يقف الزمان والمكان عليها!؟ .
لكن! .. بعد لحظات يذهب هو، وتقف أنت على أبجديات الطريق تائها!! .. تهز رأسك وكأنك في حلم! .. وتبتعد عن المكان وتنسى ما كان! ..
وبعد مسافات زمانية ومكانية .. يبدأ إحساس معين يحيطك ويؤرقك ببطء وبهدوء عجيب! ..
لحظتها .. تود الانطلاق إلى حيث كنت .. وحيث كان ..
لحظتها تتمنى وبكل قوة .. أن يطير بك الشوق إلى أراضيه وإلى مكانه، لتنعم به مع الآخرين! ..
لكن .. ولأن الأماني ضرب من الخيال .. لا يتحقق لك ما تمنيته ! فتنسى كل ما فكرت به وتخيلته !.
لكن .. قلبك ـ دون علمك ـ رسمه في داخله !!؟ .
وتدور الأيام .. وتقودك الصدفة مرة أخرى .. إلى الالتصاق المكاني به، لحظتها تتمنى لو وضعت يدك بيده .. وانطلقتما إلى المكان والزمان .. الذي لا يحوي أحداً !!؟ .
وينتهي هذا المشهد .. "العاطفي" ـ من جانبك فقط ـ كما انتهى سابقه.
وتبدأ الفترات الزمانية المتعاقبة .. ممارسة هوايتها المفضلة للعب على أعصابك ودواخلك !!..
وتبدأ أنت بدورك .. تنساق مع ما يبديه لك قلبك وتتطور المسألة .. ليسكن من أحببت في دواخلك .. وقلبك .. وعقلك !!.. تتنفسه، وتراه بعينك .. في كل لحظة !..
تستلذ بالأمر بالبداية .. وتستطمع ذلك بلذة رائعة!!.. تتوق للمزيد والمزيد .. بين كل لحظة وأختها، تتعمد تذكره والوصول إليه .. لأنك تشعر بمتعة حقيقية بذلك تتصل عليه وتسمع همساته .. تخترق مسمعك وترطبه ومن ثم تدفء قلبك !!
وتستمر العملية .. وتستمر ..
وكل يوم يمر .. يزداد ولعك به وولهك له .. وتعطشك له يزداد بأكثر من سابقه ..
تقف باحثا عن النهاية في ذلك .. تجدها بعيدة، وليس لها معالم ترشد لها!!.
طريقك طويل .. تمشي من خلاله، تبحث بصدق عن وضع نهائي لطريقك .. ولا تجد إلا السراب .. فقط السراب!! .
تسأل نفسك .. وقد أضناها التعب .. وأتعبها السهر .. وعذبها الولع والشوق .. وما النهاية؟.. ولماذا كل هذا؟.. وهل أنا مصيب؟.. وكيف حدث هذا؟!..
تقف وتسترجع شريط الذكرى من البداية رغم أن البداية كالنهاية واضحة المعالم ..
بدأت القصة .. بإيعاز من قلبك وموافقة من طرفك ..
بدأت .. بنظرة .. ثم فكرة .. ثم التصاق زماني ومكاني .. ثم بحث عن سماع صوته! ثم بحث عن رؤيته! .. ثم بحث عنه من أجل الانطلاق معه عبر ممرات الحياة .. ثم تهدف إلى أن لا يفارقك .. ثم تعمد إلى سماع صوته بين كل لحظة وأخرى .. ثم تهدف وتود إلى أن لا يكلم أحداً .. ثم تهدف إلى أن لا يرى أحداً .. ثم تهدف إلى أن لا يراه أحداً !!.. ثم .. ثم .. ثم ..
وتطول العملية وتستمر بقلق أطراف متعددة ..
تبحث عن الوصول إلى النهاية .. فقد تعبت .. وتألمت بما فيه الكفاية، ولم تشبع نهمك إليه .. بل تراه يزداد !..
أنت تبحث عنه إلى متى؟ .. وهو يبحث عنك إلى متى؟ (هذا بغرض اتفاق الطرفين على المحبة المتبادلة!) .
مسلسل بلا نهاية .. اسطوانة تعزف أنشودة عشق معذبة! باستمرار .. تطيع قلبك الحالم بأيام رائعة .. وتنسى أو تتناسى واقعك الرافض للكثير من المشروعات التي رسمتها بعقلك بإيعاز من قلبك !!..
آلامك تستمر .. وأحزانك تخيم!..
وإلى أن تجد النهاية "البعيدة غير الواضحة" .. تأكد أنك ستتعب وستتألم بمقدار حبك له وبمقدار بعد النهاية عنك! بينك وبين نفسك .. تغزوك فكرة .. بأن تقطع الطريق من منتصفه، بأن تضع النهاية بنفسك، فلن تنتظرها لتأتي أو إلى أن تصل إليها .. تغزوك فكرة .. بأن تصارح من أتعبك وأتعب قلبك ودواخلك بحقيقة الأمر .. وكيف أنه سكن في فؤادك، تقول : سأشرح له .. سأحيطه علماً بذلك، لعله يحتضنك بقلبه .. لعله يضمك إلى دواخله .. لعله يبتسم في وجهك يمنحك الضوء الأخضر ..
تجمع قواك .. تعد العدة .. وتصارحه ..
لكن تأكد أنك بعد مصارحتك له .. أنك ستقف على طريقين لا ثالث لهما..
الأول .. سيبتسم في وجهك، ستعلو أنفاسه .. وتضطرب دواخله ويحتضنك بقلبه، ويدخلك إياه، وسيمد يده إلى يدك ويأخذها ويضمها ـ بعنف ـ مع يده .. وتسيران في الطريق الطويل سويا .. في هذه الحالة .. ربما ارتحت وانتابك شعور بالمتعة والراحة لأنك ركنت قلبك إلى قلبه .. وجزمت على أنك ستكمل مسيرة حياتك إلى جوار من أحببت .. فتهنأ، لكن .. تأكد أنك ستتعب إذا فارقك أو غاب عنك لحظة واحدة فقط!.
وثاني الأمرين الذي لا ثالث لهما ..
أنه سيردك ويغلق الباب في وجهك .. لن يمنحك الفرصة حتى لأن تشرح له سبب ذلك .. وكيف أنه سكن قلبك بلا علمك ولا اختيارك! .. لا يمنحك الفرصة .. ويقول لك .. هذا عبث طفولي، لسنا من أهله ..
لحظتها .. أجزم .. أنك تود أن تبكي بدلا من الدمع دما! .. لحظتها .. تتمنى أنك لم تصارحه ولم تصدق معه .. ولم تشعره بأحاسيسك تجاهه!.
ففي هذه الحالة .. أصبحت آمالك سراباً .. أحلامك أوهاماً .. تطلعاتك فقعات صابون .. أصبح ماضيك بأكمله .. عبئاً ستحمله على أكتافك أمداً بعيداً .. أضحى قلبك مجروحاً .. محطماً .. مكسوراً .. ستبحث عن علاج له، ولن تجد، ستعمد إلى النسيان .. تجد أنك تتذكر رغماً عنك!.. ستتألم بصدق .. وستتعب إلى أن يُقيَّض آخر ينتشلك من واقعك المؤلم .. ويحتضنك بقلبه ..
لذلك .. نقول قبل الإقدام على خطوة المصارحة، واختصار طريق النهاية .. وازن بين الأمرين السابقين .. واختر الأمر الذي تتكيف معه .. وتعلم أنك قريب منه
عموما .. إذا شعرت أن الأمر الأول سيتحقق لك .. فاجزم على المصارحة.
أما إذا انتابك شعور بأن الأمر الثاني سيكون مصيرك فأرى أن تعيش على أمل، خير من الحرمان من الواقع والأمل .
ما سبق قضية محب .. صنعها الزمان والمكان وواقع الحال وربما افتقدناها في هذا العصر .. لكنها موجودة .