يتسرب البرد خلسة إلى جسدها. تجهل الفتحة التي يلج منها كدبيب النمل.. يتسلل كاللصوص ليقتنص الأماكن الأكثر دفئاً.
أخذت جولة سريعة قبل أن تغادر، لتتفقد المدفئة والفرن والنوافذ.
كل شيء على ما يرام..
لاحظت، وهي تقف أمام المرآة، أنها بالغت في تلطيخ وجهها بالبقع الملونة. فأزالت كل شيء وأبقت الكحل وقليل من أحمر الشفاه. غرست بعض الشعيرات المتمردة تحت حجابها، شدت رباط حذاءها، أحكمت إغلاق معطفها الجلدي، حملت مظلتها وخرجت.
وقفت طويلا أمام الباب حتى تتأكد من إغلاقه. تمسك بقبضته وتدفعه بقوة عله يخيب ظنها مرة وينفتح لتغلقه من جديد.. ولكن ذلك لم يحدث. تنهدت بعمق، ثم فتحت مظلتها وهي تتأمل حبات المطر الكبيرة التي تسقط على الأرض، فتتحطم وتتفرق حبيبات صغيرة متناثرة.
الحياة طبيعية جداً، كل شيء يسير كما لو كانت السماء صافية بلا غيوم سوداء متراكمة فوق بعضها. الناس مستمتعين. لم يلزموا بيوتهم ليشاهدوا المنظر بعيون فاترة من خلال النافذة والمدفئة من وراءهم تنفث لهيبها . طقوس تقتل الروح المشتاقة للحياة، تغتال الجمال وهو ينتشي من الرقص مزلزلاً المكان!.
تنظر للناس، وهي محدودبة الظهر خشيت أن تبتل.. فمظلتها صغيرة ولا تغطي جسمها بالكامل. غبطتهم وهم يفتحون أذرعتهم ليستقبلوا المطر. يبتسمون، يقهقهون. تصدر منهم تصرفات جنونية كلما غرقوا في الماء أكثر!. ألقت التحية على سيدة عجوز اعتادت على مشاهدتها كل يوم تقف أمام منزلها لتسقي الزرع. بابتسامة عريضة ، وجلد مترهل.. ردت عليها التحية وهي تمسك بالمظلة وترقص لتستمع مع الباقين بهذه الأجواء!.
الأطفال يملئون بقعة في أقصى الشارع، متجمهرين حول دكان بائع الحلوى الذي يعطيهم ما يشؤون مقابل قبلة بريئة تنسيه هاجس الشيخوخة!.
أمسكها بيده الطرية، وضمها على عظام صدره، وراح يرقص معها متمايلاً والأطفال حولهما متحلقين. يصفقون، ويغنون. اصطكت أسنانها بقوة، هجمت على جسمها ألسنة النار تحرقها فشعرت بأن المظلة غطاء قدر محكم الإغلاق على لحمة استنزفت ماءها حتى احترقت وتفحمت .. ثم تعفنت!. بأنف محمر اجتمع فيه كل ما تبقى من دم الجسم، تملصت وهي ترغب في التقيؤ ولفظ ما علق بها من ذلك الكهل!.
تسارع الخطى لتصل إليه..
“يا ترى ماذا يفعل الآن؟! هل لا زال يغط في سباته معرضاً عن التلذذ بجمال هذا المنظر؟! أم إنه استيقظ متبرماً ليدخن سيجارته..”
تحدث نفسها وهي تقطع الشارع ..
شقت المياه الراكدة الكثيفة سيارة مسرعة نثرته إلى فسطاطين أحدهما لطخ ملابسها بالنتانة وقطع من أوراق الشجر الميت. توارت في الزقاق تزيل ما علق بها وهي تنتفض وتنوح كحمامة فقدت صغارها بغتة فلم تعد تمتلك إلا الدموع. تنظر إلى الأعلى؛ خشيت أن يكون أحد سكان البنايتين ينظر إليها، فلم تجد سوى ملابس مبتلة تقطر من الشرفة. أطمئنت؛ لأنها الوحيدة التي شاهدت نفسها تتدنس من سيارة فخمة متهورة لا تبالي بالعابرين!. أناخت ظهرها إلى الجدار، أخذت نفساً عميقاً وهي تضع يدها على قلبها حتى لا يطير من مكانه من شدت ما خفق. تكورت على نفسها، ضمت ركبتيها إلى بطنها ثم دست رأسها بينهما بقوة.
“هل يستحق كل هذا الحب ؟!”
صوتها مخنوق بمرارة السؤال. الدموع تتوالى على خدها مختلطة ببقايا حبات المطر لتجري بسلاسة إلى فمها المزدحم بلعاب الإحباط السام!.
تتجرع الموت شيئا فشيئا كلما ابتلعت ريقها. السؤال تائه في رأسها، يصطدم في ميزان العقل فيحدث صداعاً نصفياً مزعجاً. لم تتأقلم بعد مع بيئة تزدري امرأة تخاف أن يقبلها رجل بحجة أن ذلك حرام! أو تتوارى خلف كومة من الأقمشة قاتمة اللون حتى لا تفتن الرجال!. يصعب عليها أن تمسح من رأسها نصائح أمها حول جسد المرأة.. التي لو فرطت في ظفر يدها فسيسهل على الرجال تقليبها بين أذرعتهم حتى يملوا منها ثم ترمى في القمامة ليلعبوا بغيرها.
لم تنس هذه الكلمات التي ترددها أمها كلما اتصلت لكي تطمئن عليها. وإن غفلت، وراحت توسوس بينها وبين نفسها وهي تشاهد أحدهم يحتضن امرأة في الشارع ويشفطها كما تشفط النحلة رحيق الوردة.. حتى تذبل!. يذكرها شريط دسته أمها في يدها قبل أن تغادر حيث يصيح الشيخ ويروي قصصا للعصاة عند الاحتضار وما سيلي الموت من محطات الامتحان في القبر والعرض والصراط. فيجن جنونها، فتبكي وتبكي.. وتسهر الليل محتضنة سجادتها وتصلي صلاة من سيغادر إلى السماء بعد دقائق.
تتقبل رجلاً أشقراً ملون العينين وفتاة نحيلة متعرية يتبادلون القبل في الطريق العام دون أدنى حرج، ولكن كيف يجاريهم ابن الصحراء الخشن ويطلب منها قبلة فور وصولها من المطار وهي بجوار عمها، بل وأمام الناس جميعاً؟!.
ظنته يمازحها، ولكنه أظهر جديته بعد أن سلمها عمها لابن خالتها الذي سيحافظ عليها حتى تنتهي من دراسة الطب فلا طاقة لهذا العجوز أن يطارد في أروقة الجامعة فهو استغل هذه البعثة للعلاج على حساب الحكومة!.
“دعيني أنظر إلى وجهك فبتأكيد ملامحك اختلفت منذ أن كنا صغاراً”
دفعته وهو يحاول نزع غطاء وجهها. استغرب رفضها وذكر لها بأن المنقبات هنا تطالهم تهمة الإرهاب ويتحجج الأمن بأي أمر لترحيلهم!. بطنها يغلي وهي تستمع له وأوداجها تكاد تنفجر.
وبعد إلحاح دام أياماً أزالت غطاء وجهها وهي تبكي، وأصبحت تتحاشى النظر في أعين الغرباء وتمر بجوارهم مسرعة حتى لا يحفظ أحد ملامحها!.
الصدمات تتلاحق بسرعة وتدك صروحاً شيدت في عقلها لتحافظ على صورة شاب مثالي تمنت أن تجلس بجواره يوما ليحضن يدها ويقبل رأس أمه ويطير بها إلى عش صغير يجمعهما للأبد.
عبثيته لا تتواءم مع طبعها الهادئ، مزاجه المتقلب لا يوافق استقرارها، أخلاقه تناقض مبادئها.. وغير ذلك من المتنافرات التي تفرق ولا تجمع.
رفعت رأسها بسرعة، وفي لحظة خاطفة نفثت عن يسارها ثلاثاً خشيت أن تكون هواجس الفشل هذه أضغاث أحلام!. ضحكت على نفسها ساخرة من فعلتها العفوية.
نهضت بهمة وهي تتنحنح..
“إنه يحبني رغم كل ما يقوم به الآن من طيش وعبث، فأمي تقول أن الرجل بعد الزواج يعود إلى رشده. إنه يحبني وإلا لما قال لي مرات عديدة كلمات بذيئة عن جسدي ثم يحاول تقبيلي فأرفض. إنه يحبني لذلك حرص على أن نكون في جامعة واحدة، وجهي بوجهة يومياً، ويغضب ويطلب مني أنزال رأسي للأرض عندما يمر الشبان بجواري. إنه يحبني لهذا يمسك يدي بيده الجافة ليقطع بي الشارع ثم يوصيني بالاهتمام بعمي وزيارته بالمستشفى، ولا يغادر حتى يتأكد من دخولي للمنزل .
كل هذا ولا يحبني؟! بل يحبني وهائم في بحر هواي بلا مجاديف. سأفاجئه بهذه الزيارة لنخرج سوياً إلى المكتبة لنشتري بعض الكتب متلذذين بجمال المنظر والود الذي يجمعنا..”.
تهذي كالمجانين حتى وصلت إلى بيته. تتسلل بجواره وهي تختلس النظر عبر النوافذ. فأيقنت أنه لا زال نائماً؛ فالمطبخ خالٍ والصالون كذلك. اقتربت من الباب، اعتلت الدرجة الأولى لكنها وقفت برهة شاخصة العينين، نزلت بهدوء كما صعدت، شكت بأنها رأت شيئا يلفت النظر. ألتفت شمالاً فوجدته مسجى فوق سريره عاري الصدر منكوش الشعر. الجزء السفلي منه مغطى بلحاف أبيض. تتأمله، تلاحظ شعر صدره المتصل ببعضه مكوناً مثلثاً منحرف الأضلاع!.. أنفاسها الساخنة كونت دائرة ضبابية شوشت عليها الرؤيا. “ما هذا الشيء ؟!” لمحت طيفاً ولكنها لم تتيقن منه. مسحت بيدها الدائرة الرطبة، فشهقت، وعظت يدها بقوة، ودمعتها واقفة على طرف عينها، لم تهبط إلا بعد أن انقلب وضم الصفراء العارية التي بجواره.
تفتقت الغيوم السوداء وانعدمت عندما حطمتها شمس قاسية لا ترحم عرت معالم المدينة على طبيعتها. أغلقت مظلتها وعادة مهرولة من حيث جاءت…!.