لم يتعرض الأدب العربي لمحنة وإنتكاسة
إلا حينما هجم أصحاب الصناعة والتكلف على
هذا الأدب والذين اتخذوه حرفة وصناعة فهم الذين
احتكروه احتكاراً، وتنافسوا في تنميقه وتحبيره ليثبتوا به
براعتهم وتفوقهم ولكي يصلوا به إلى أغراضهم، ويستمر
ذلك ويستفحل حتى يصبح الأدب مقصوراً عليهم مختصاً
بهم، ويأتي على الناس زمان لا يفهم من كلمة " الأدب " إلا
ما أثر عن هذه الطبقة، من كلام مصنوع وأدب تقليدي لا
قوة وفيه ولا روح، ولا جدة فيه ولا طرافة، ولا متعة فيه ولا
لذة.
طغت كتب الأدب الصناعي في كل حقب الأمة، وعلى
ما سواها من كتب، حتى امتلئت به مكتباتها، ورُكن الأدب
الطبعيي على الرفوف كما يقال تشبيهاً، والأدب الطبيعي
هو الكلام المرسل، الذي يحرك النفوس ويثير الاعجاب،
ويوسع آفاق الفكر، ويغري بالتقليد، ويبعث في النفس
الثقة، ولا عيب فيه إلا أنه صدر عن رجال لم ينقطعوا إلى
الأدب والإنشاء ولم يتخذوه حرفةً ومكسباً، ولم يشتغلوا
به كصناعة أو حرفة، وما يفقأ العين عورا، ويجلب الكمد
والغيض، أن هذا النتاج الأدبي الجميل الرائع لم يكن له
عنوان أدبي، ولم يكن في سياق أدبي، وإنما جاء في بحث
ديني، أو كتاب علمي، أو موضوع فلسفي أو اجتماعي
فبقي مغمورا مطمورا في الأدب الديني، أو الكتب العلمية
ولم يشأ الأدب الصناعي - بكريائه - أن يفسح في مجلسه
له، ولم ينتبه له مؤرخو الأدب - بضيق تفكيرهم وقصور نظرهم-
فينوهو به ويعطوه مكانه اللائق.
تحدثت به كتب الحديث والسيرة، وهي كمثال لهذا الأدب
الطبيعي، فكم من الاحاديث التي نقرأها وتحمل من دلالات
اللغة وقوتها، وأصالتها وسهولة لفظتها، والتي تتدفقت
بالتعابير عن الخواطر والمشاعر والوجدان النفسي العميق
وهذا دليل على ما لهذا الأدب من جزالة معنى وقوة لفظ.
كم من تلك الكتب التي اشتملت على روايات قصيرة وطويلة
وكلها أمثلة جميلة للغتنا العربية لغة ( الضاد ) التي تكلم
بها أولئك، وعبروا فيها عن ضمائرهم وخواطرهم، ولذلـــك
فأنت تسبح معهم في كتبهم وما حوته من ألفاظ وقدرة بيانية،
ووصف دقيق، وتعبير رقيق، وعدم تكلف الصناعة والإنشاء، إنك
لتقف أمامهم معترفاً لهم بالبلاغة والتحري في صحة النقل
والرواية، وللغة العربية بالسعة والجمال.
أكتفي أيه الأخوة الكرام، بحديث كعب بن مالك وتخلفه عن غزوة
تبوك، لعيبر لنا عن قصته وما فيها من اعتراف ضمني بخطائه،
وتقصيره في الجهاد، وما حمله من تصوير بلاغي قلما نجد له
شبيهاً أو محاكيا .
دمتم في رعاية الله.