الفراق .. هذا الشبح الذي يطارد كل شمس حب تشرق .. ليحيلها لمغيب لا إشراق بعده! ..
الفراق .. هذا الأمر المحزن حد القتل .. يركض بكل حقد لقلوب الحب .. ليعطل البسمة .. ويجعلها .. دمعة!!.
ولأن أسطورة الاستمرارية للقلوب بالفرح .. ضرب من الخيال .. بل استحالة دنيوية .. إذ يظل هاجس الفراق الأبدي .. جاثماً على صدور وقلوب المحبين .. وهم بذا لا يعارضون واقعا .. أو يعيقون أمرا سيكون لا محالة .
ومن هنا نجد أن القلوب الجميلة تعمد إلى الاستمتاع بأكبر قدر ممكن من الوجود الحسي والمعنوي والمادي ..!
ولكن ديمومة الحياة .. ترفض أو بمعنى أصح لا تديم اللقاء ..
ولأن الموت حق! .. إذاً الفراق حق!..
ومن هنا نجد أن أطراف الحب .. قد تهيأت لساعة الفراق الأبدي .. قد استعدت لنزف الدمع على من كان .. وأضحى لم يكن !! قد تجهزت لإكمال الطريق بنصف قلب !.
وحتى لا يكون لموضوعنا هذا ديباجة ـ قد ـ تكون مملة على (البعض) .. ممن لا يستهويهم مشاعر الفرح أو حتى مشاعر البحث عن الفرح! .. أو الحزن ..
من أجل ذلك .. أرى ثمة خطأً قاتلاً يقع به كل طرف من أطراف الحب .. في هذا العالم المدلهم بالأخطاء والتناقضات والدمعات .. والآهات ..
هذا الخطأ ـ حقيقة ـ غير مقصود .. إذ يراد به تضحية ما بعدها تضحية .. لكنها في واقع الأمر .. قمة الأنانية !!!.
هذا الخطأ .. القاتل .. هو عندما يردد أحد أطراف الحب قائلاً .. لنصفه الآخر أو نصف قلبه أو روحه وعقله وكله .. عندما يردد قائلاً "جعل يومي قبل يومك" .. وهو يقصد طبعاً الموت! إذ يريد هذا القائل من عبارته .. أن يغادر هو الدنيا .. قبل حبه، يبحث عن عدم العيش وحده، يريد أن يعيش حبه بعده أحاديا! .. يريد ـ هو ـ أن لا يبكي حبه، يريد ألا يعيش ـ هو ـ لحظات فراق حبه !! يريد أن يعيش حبه الدنيا .. بعده بأكملها !!.
هو بذلك يعتقد أنه مارس كامل التضحية .. كامل الحب .. في الوقت الذي أرى أن هذا القول هو كامل الأنانية .. بل قمتها !!.
أما لماذا .. فلأن المحب .. ( وهذا أمر مسلم به! ) يبذل كل جهد أن لا ينزف الطرف الآخر دمعة حزن .. أو أن تمر به لحظة ضيق يكون سببه الطرف الآخر .. نجد أن المحب يحرص على عدم إحاطة أية سحابة حزن على سماء طرفه الآخر .. نجده يحتضن ـ بكل الألم ـ كل الجروح والآلام والدموع .. مانعا إياها من الوصول للطرف الآخر .. لأنها بمجرد وصولها له .. ستحزنه .. وهو ـ أي المحب ـ لا يحتمل الألم لطرفه الآخر !!.
يبعد المحب .. حبه عن إرهاق الأيام .. من أجل أن يتمنى لحبه أن يبدع في الأيام التي تجمعهم ببعض ..
يمسح دموعه هو .. من أجل أن يراها حبه أكثر إشراقا .. أكثر حبا .
يزيل آلام الرفض .. يشعره أن العالم كله .. يضحك لنا! ويرفض أن يبدي له الوجه الأسود لهذه الدنيا .. لا لشيء إلا من أجل ارتسام البسمة بشكل ديمومي على الطرف الآخر .
من حق المحب أن يمنع كل ما يكدر على حبه صفاء الجو .. لأجل التنعم بالإشراق .. وكثير الحب .. وكثير الفرح !!
ولا أعتقد أن أحدا يخالف هذا المنهج .. السليم والجميل الرائع المؤلم !!.
لذا أعتقد أن الغالبية (من أطراف الحب) .. تخطئ عندما تردد (جعل يومي قبل يومك) .. أما لماذا؟ فلأن الفراق والموت .. واقع لا محالة .. سواء بوجود الحب .. أو عدمه!! .. وقولنا العبارة السابقة .. إنما نمارس أنانية مفرطة!! .
فعندما يغادر المحب الدنيا .. لن يبكي هذا المغادر على حبه .. لن ينزف على قلبه الآخر .. لن يمنع عنه دمعة أو يقدم له ابتسامة .. لن يحيل المغيب إلى إشراق !..
بل على العكس تماما .. فبمجرد فراق المحب للدنيا بشكل عام .. ولدنيا حبه بشكل خاص يكون قد رسم على الطرف الآخر كل دوائر الحزن .. وكل دمعات الأسى حد القتل .. سيحيل هذا الفراق على قلب الطرف الآخر كل أيامه الباقية إلى نار تكوي قلبه ومشاعره .. ستحيل مشاعره إلى أحزان في أتون أحزان .. سينهي معنى الضحكة وصورتها .. سينسى إشراقة الفجر وروعته .. وله عذره في ذلك ولن يلومه أحد .. لأن الأمر خارج الإرادة .. فقلبه المتحدث المتصرف لا عقله .
إذا .. هذا الأمر .. أعده جريمة عاطفية بحق الآخر !!.
وأعتقد .. الآن .. أن الصورة قد اتضحت الآن لمن يحملون في دواخلهم قلوباً حقيقية .. لا قلوب الدم والضخ فقط !!.
وبعد .. يبدو لي أن الصحيح أن نقول "جعل يومك ـ قبل يومي" !!.
نعم سنفتقده .. سنحزن عليه .. سنبكيه .. سنرهق ألما وحبا وفراقا .. لكننا مستعدون لذلك .. مستعدون لكل ألام الفراق القاتلة .. في سبيل ألا يتحملها هو!!.
وهذا .. قمة التضحية .. قمة الحب .. قمة صدق المشاعر ..
وإن كنا .. نبحث عن الأصوب .. والأعدل .. لكنه الأصعب حدوثاً .. يستلزم الأمر أن يردد أطراف الحب .. "جعل يومي ويومك واحدا" !!.
هذا الأمر .. الأكثر عدلا .. لن يبكي ولن أبكي، لن يناله الحزن ولن ينالني نفس الشعور .. إذ تضحى القضية أكثر عدلا .. ولكن كما قلت أكثر صعوبة في الحدوث !!.
وبعد ..
ربما وافقني بهذا الرأي كثير أو قليل الأخوة .. لا أدري لكن المهم أنني أبحث عن تعديل للفظ شائع (خاطئ) بين المحبين .