الحقة الخامسة :
قال الله تعالى :
{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (14) سورة النحل
وقال تعالى :
{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (12) سورة فاطر
لي مع هاتين الكريمتين وقفات :
الوقفة الأولى : وصف الله تعالى لحم البحر بما لم يصف به أي لحم آخر فقد وصفه بالطري , والطريّ في اللغة هو الغض اللين الجديد ( مفردات الراغب : 519 , لسان العرب ( طري ) .
قال الألوسي في روح المعاني تعليقا على آية النحل : " والطراوة ضد اليبوسة ، ووصفه بذلك للإشعار بلطافته والتنبيه إلى أنه ينبغي المسارعة إلى أكله فإنه لكونه رطبا مستعد للتغير فيسرع إليه الفساد والاستحالة ، وقد قال الأطباء : إن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر الأشياء ففيه إدماج لحكم طبي " ا. هـ
ونحن نرى لحم البحر غضا طريا سهل الهضم , يذوب في اللسان كما يذوب الزبد , وحين نتأمل أن الله تعالى قال : لحماً طرياً , ولم يقل سمكا طرياً , مما يدل على أن لحم البحر كله يؤكل سواء أكان سمكاً أم غير سمك , وهذا قول مالك وظاهر قول الشافعي والأوزاعي والشعبي ونسب إلى أبي بكر وعمر وعدد من الصحابة وهو أرجح , لقوله تعالى : " {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } (96) سورة المائدة فصيد البر : هو جنس لكل ما يصاد منه .
الوقفة الثانية :ذكرت الآيتان الفوائد المستخلصة من البحر :
1.أكل اللحم الطري .
2.استخراج الحلي واللؤلؤ .
3.جريان الفلك في البحار .
4.خدمات أخرى عبر عنها بلفظ : " لتبتغوا من فضله " وذلك مثل الاستفادة من البحار في النفط والاتصالات والكهرباء وغيرها مما أجهله ويعلمه غيري .
الوقفة الثالثة ) الفروق بين الآيتين ) :
وإذا تأملنا الفروق بين الآيتين نجد العجب العجاب .ففي الآية الأولى ( آية النحل ) تحدثت الآية عن البحر كجنس دون تحديد نوعه (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ ) وفي الآية الثانية تحدثت عن البحر بنوعيه : ( عذب وملح ) ونستطيع أن نستخلص الفروق من خلال ما يلي :
أولاً : في الآية الأولى : قال " وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا " جاء حرف الجر ( من ) مع الضمير , ولم يأت في الثانية , والسبب والله أعلم : أن الأولى جاءت في مساق النعم وتفضل الله على عباده فكرر ( من ) للتأكيد , أما في الثانية فجاءت لبيان نوعي البحر , وتقدم عليها لفظ : ومن كلٍّ , و( كل ) تفيد العموم , فلم يكن ثم داعٍ لتكرار الحرف من فجاءت الآية " وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا " .
ثانياً : قوله تعالى في آية النحل : " وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ " وفي فاطر قدم الجار والمجرور " وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ " والعلة في ذلك والله أعلم : أن الأولى صدرت بلفظ البحر دون تفصيل لنوعه , فهو جنس يشمل جميع أنواع البحار , فلما جاء ذكر السفن وجريانها فيه جاء الترتيب طبيعيا " الفعل + المفعول + الحال + المتعلق بالحال " يعني ترتيب لغوي جاء على الأصل .
أما في الثانية فصدرت بلفظ : البحران , وهما العذب والملح , ولو سألنا أي شخص حتى ولو لم يكن عالماً بالبحار : ما نسبة الماء العذب للماء الملح في البحار لقال إنها نسبة ضئيلة جداً قد لا تتجاوز 2% من بحار العالم ومحيطاته .
إذن فالسفن أين تجري : في البحار المالحة أم العذبة ؟
الجواب : أنها تجري بنسبة 99 % في المياه المالحة , إذن فالله تعالى قال في آية فاطر : "وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ " فقدم الجار والمجرور مفرداً , ولم يقل ( فيهما ) والضمير يعود على أقرب مذكور وهو : الملح الأجاج " فناسب تقديم الجار والمجرور ليُعلم مكان جريان السفن .
ثالثاً : قوله في الآية الأولى : " وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ " فجعل الابتغاء عطفا على ما يستفاد من البحر : لتأكلوا , وتستخرجوا , وترى الفلك , وتبتغوا , فهذه أربع نعم مفصلة تفصيلاً دقيقاً في هذا الموضع , وهي آية النحل , وذلك أن الآية جاءت في مساق تعداد النعم في أول سورة النحل : نعمة الأنعام والخيل والبغال والحمير , ونعمة الماء والأمطار , والزرع والنبات , ونعمة الشمس والقمر والنجوم , ونعمة البحر , ونعمة الجبال ولذلك قال تعالى بعد كل هذه النعم : {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (18) سورة النحل .
أما في آية فاطر فجاءت بهذا اللفظ : " وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ " فجعل الابتغاء علة لجريان السفن وهو أخص من سورة النحل , والسبب والله أعلم ما ذكرته آنفا من أن سورة النحل فيها تعداد النعم فناسب التفصيل , وأما في آية فاطر فكان الحديث عن بحرين ( العذب والملح ) وبحكم أن الملح هو الأكبر والأعظم والمنفعة منه أكبر جاء ذكر الفلك والابتغاء راجعاً إليه .
هذا ما لدي في هاتين الآيتين الكريمتين , فما أصبت فيه فمن الله تعالى وله الحمد والنعمة , وما أخطأت فيه فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله أن أقول في كتابه بلا علم .