كَانَ يدْرِكُ كَم مِن الأمْنِيَاتِ أرادَتْ أن تُحقِقْ، و كَان يدْرِكُ مقْدارَ عجْزِهِ عَن إشْعارِعَا بِ مقدرِتهِمَا معاً على تحْقِيق رغَباتِهَا، و احلامِهَا الصّغِيرَة ...
عنْدَمَا تنْظُرُ إليْهِ بِ عيْنيْهَا المليئَتيْنِ دموعاً، يحِسُ بِ اليُتْم، و الفَقد، و أشيَاءَ تخْرِسُ كُلَ حواسِهِ عدا النّظرِ إليْهَا، تنْشَلُ يديْهِ عَنِ احتِضانِهَا، و يحاوِلُ ألّا يبْكِي كَيْ لا تسْمَعَ صوْتَ زفِيرِ الحُرقَةِ يشْتعِلُ فِي صدرِه.
أمسَكَ بِيديْهَا و سَاراً معاً كُلَ بلْدانِ العالَم... التقَطَ لهَا الكَثِيرَ مِن الصُوَر، علّقَهَا علَى أرجاءِ جدْرانِ غُرفتِهِمَا،
كَانَ يرَى سعادَتَهَا المكْسُورَة كُلَّمَا احتضَنَت طِفْلَهُمَا،
"أمِين ...
تُنادِيهِ بِ صوْتِهَا الرّقيقِ المليءِ حناناً،
تُحاوِلُ أن تجعَلَهُ يدْرِكُ بِ انّهَا تقدَّرُ محاوَلاتِهِ لِ جعلِهَا تبْتسِم، و لكنَّ الكلماتِ تخْتنِقُ بِ عَبراتِهَا،
فَ يخْرُجُ مِن الغُرفَة ... باكِياً،
و تبْقَى هِيَ ... تلومُ ذاتَهَا لِ أنَهَا أغضَبتهُ و جعلتْهُ يغادِرُ الغرْفَة،
كانَت تعْتقِدُ بِ انَّه عنْدَمَا يلوذُ إلىَ غرفتِهِمَا، فَ غنّهُ يبدأُ بِ اللّعْنِ و الصُراخِ و الغَضبْ ..
كَان يعتقِدُ بِ أنّهُ بِ ابتعادِهِ يُبْعِدُ ألَمَهُ بِ العجْزِ عنْهَا ...
هُوَ لَم يعرِف أنَهّا تبْكِي لِ اجلِه،
و هِيَ لَم تعْرِف بِ أنَهُ يخْرُجُ باكِياً لا غاضِباً ...
كيْفَ تعْرِفُ و حلُمُهَا الصّغِيرُ بِ رؤيَةِ الألوانِ و الأشجارِ و الأنهارِ، حَكَمَ عليْهِ بصرُهَا العَقِيم بِ
(لا يُمكِنُ أن يتحقّقْ) !!!

كانَت تمْلِكُ كُلَ شيءْ، كُلَ شيءٍ يمْكِنُ أن تحلُمَ بِه أمرأةٌ متعلَمَةٌ فِي حياتِهَا ...
زوْجٌ يمتلِكُ شَرِكَةَ عقاراتٍ ضخمَة، حفلاتِ عشاءٍ يومِياً، صديقَاتٌ يعملَنَ فِي مراكِزَ مرْموقَة، و يحمِلنَ شهاداتِ الماسْتِر كمَا تفعَلُ هِيَ تماماً ...
و لكنّهَا كُلَمّا عادَت إلَى بيْتِهَا، و وجَدَتْ زوجَهَا يغُطُ فِي نوْمٍ كَ سُباتٍ شتويٍّ مِن شدّة الإرهاق، عنْدهَا فقَط تتسنّى لهَا الفُرصَة لِ تراهُمَا،
هذيْنِ الشابيْنِ المعْدوميْنِ السّعيديْن ... كيْفَ ذلِك !
يتقابَلانِ كُلَ مساءٍ تحْتَ شجرةِ الصّفصافِ القَريبَة مِن أسوارِ قلعتِهَا الحَصينَة،
و لكنَّ أصواتَ ضحكاتِهِمَا تخْترِقُ كُلَ الحصونِ و تكْسِرُ بِ هدوءٍ شرسٍ قَلْبَهَا،
هُمَا لا يمْلِكَان مالاً ... رُبَما لا يحمِلُ احدُهُمَا شَهادَة،
تتنهَد ... تأسِرُهَا ضحكَتُه، تذِيبُ قلْبَهَا المتعطَشَ لِ إعطاءِ الحُب،
لقَد امتلَكَت كُلَ شيءٍ دونَهُمَا، لكنّهَا لَم تمتلِك الشيءَ الوَحِيد الذِّي يسْتحِقُ الامْتِلاك ...
لَم تحْظَ بِ طفْلٍ تأسِرُهَا ضحكِتَه !!
وقَفْت بِ وشاحِهَا الأسْوَد بِ القُرْبِ مِن كُلِ اولئِكَ الملاييْن،
تتحاشَى نظراتٍهٍمُ المتسآئِلَة إليْهَا، تُرِيد أن تنْتَهِي مهْزَلةُ حياتِهَا بِ موتِهَا لا بِ موْتِهِ هُوَ !
لقَدَ قدّم بِ رحيلِه هذا أسوأ عِقابٍ لَهَا ...
عيْناهَا متسَمِّرتانِ عَلى قبْرِه، و وجْهُهَا لا يَكادُ تظْهَرُ ملامِحُهُ مِن تحْتِ قبَعتِهَا الّتِي اختفَت خلْفَهَا كَ أنّهَا تتوارَى عَن الجَمِيع،
تراجَعَت ... بناتُهُ يبْكِينَ بِ قُوَة عليْه، لمَاذا لا تقْدِرُ أن تفعَل،
زوجَتُهُ تئِنُ هُنَاك، لمَاذا لا تبْكِي هِيَ ؟!
لماذَا رَحَل قَبْلَ أن تُخبِرَهُ كَم هِيَ نادِمَة عَلى صُراخِهَا، على رحِيلِهَا،
لماذا رَحَل قَبْلَ أن تُخبِرَهُ كَم تُرِيدُ أن تقبَّل قدميْهِ كَيْ يرْضَى عنْهَا ،
الآنَ تَمُرُ لحظاتُ حياتِهَا عَلى شاهِدِ قبْرِهِ كَ ملاكِ موْتٍ لِ شعُورِهَا هُنَا أيْضاً،
تكادُ تشْعُرُ بِهِ و هوَ يداعِبُهَا، ويحضِرُ طعامَهَا، و يغْسِلُ بعدَ وفاةِ والِدتِهَا ثيابَهَا ...
أ لأنَهُ قرّر الزواجَ رحَلتْ ، و نأت، و تناسَت وجودَ أبٍ لَهَا ...
ترنّحَت إلَى الوراء ... إلى الوراءِ أكثَر، و غَابَت عَن الملايِين ... لِ تبْكِي وَحْدَهَا فقد أبِيهَا !