في يومِ وفاتِهَا ..
ذَهبتُ إلى المقبرةِ ..
معَ المعزينَ في وفاتِهَا ..
و كان الألمُ يعتصرُ قلبي اعتصاراً ..
لمْ تحمِلني قدَمَايَ ..
كنتُ بصحبةِ أحدِ الأقاربِ لنا ..
أشارَ إليَّ منْ بعيدٍ ..
هذا هو طِفْـلُـهَا الوحيدُ ..
أخذتُ بمراقبةِ الموقفِ من بعيدٍ ..
أكثرُ منْ ساعةٍ ..
و أنا أُحَـدِّقُ في عَـيْـنَـيْهِ
كأنَهَا عينَاهَا ..
وقد أغر ورقتْ بالدموعِ ..
كما هي عينايَ ..
وفي لحظةٍ ..
قررتُ الاقترابَ منهُ أكثرَ ..
لأسمعَ أنفاسهُ ..
و أشتمُ رائحتهُ ..
علَّهَا تلامسُ ما جفَّ من عروقٍ ..
في داخلي ..
مكثت في مكاني لحظاتٍ ..
لا أعلمُ ما أصبو إليهِ ..
وفجأةً ..
و بدونِ مقدماتٍ جثوتُ على ركبتايَ أمامهُ ..
قلتُ لهُ :
و بصوتٍ مبحوحٍ ..
أحسنَ اللهُ عزاءكَ ..
مسحَ دموعهُ بيدهِ ..
و دونَ سابقِ إنذارٍ ..
أبتسمَ ابتسامةً ..
لم أرىَ مِثلَهَا ..
إلاَّ مِنْهَا ..
ما كنتُ أتوقعها ..
قالَ لي منْ أنتَ ..
تلعثمتُ و تلاطمتْ أمُّ أفكاري ..
و تعثرَ اللسانُ ..
دارَ في خاطري أنْ أرحلَ عنهُ ..
دونَ إكمالِ الحديثِ معهُ ..
ولكنْ ..
هناكَ شيءٌ في داخلي ..
قيدني ..
قلتُ لهُ :
أنا فــــــــلانٌ ..
و بسرعةِ البرقِ ..
أفلتَ يدهُ مماً كانَ جانبهُ ..
و احتضنني احتضاناً عجيبًا ..
ما كنتُ أتوقعهُ ..
و لمْ أحسبُ حسابهُ ..
قالَ :
أأنتَ فلانٌ ..
قلتُ نعمْ ..
فبكىَ منْ جديدٍ ..
و بكيتُ معهُ ..
قالَ :
لماذا تبكي ..
فأمي تُحِبُكَ ..
هـنا !!
كانتْ أولُ الصدماتِ و آخِرُها ..
و أكبرُها و أعظـمُـها !!
يا الله كيفَ ؟؟
و متى وأينَ ؟؟
من أين أتىَ بهذهِ الكلمةِ .. من أينَ ؟؟
يا الله ..
أحسستُ بشللٍ في أطرافي ..
و برودةٍ في دمي ..
ما كنتُ أعهَدُها ..
بل كانت هي الشللُ بعينهِ ..
و أقتربُ منهُ أكثرَ وهمسَ في أذني ..
أنا أحبكَ لأنَّ أمي تُحبكَ ..
هنا !!
كانُ السقوط ُ!!
مغشياً علي ..
لا أعلمُ ماذا حدثَ لي ..
مجردُ نورٍ أبيضٍ و صوتِ هديرِ الهواءِ ..
يخترقُ طبلتا أذنايَ
دخلتُ في غيبوبةٍ ..
استمرت ثلاثةَ أيامٍ ..
بلياليهن
وفي إحدى اللحظات ..
سمعتُ صوتاً يسري في جسدي ..
قبلَ مسامعي ..
صوتاً يشبهُ صوتها ..
يقولُ ..
فلانٌ .. فلانٌ ..
أستيقظْ ..
لا تتركني كما تركتني أمي ..
أنهُ صوتهُ الدافئ الحنون ..
كان يناديني عن قربٍ ..
و أنا ممدٌ على سريري الأبيضِ ..
فتحت عينايَ .. و حركتُ رأسيَ ..
و إذ بي أرى القمرَ ليلةَ البدرِ ..
أمامي ..
كأنهُ .. هي ..
بنفسِ طبقاتِ صوتها ..
بنفس ريحِها و عبيرِها ..
الذي لم يغبْ عني طوالَ تلكَ السنينِ ..
و عندما رآني قد تحركتُ ..
سحب كرسياً و اعتلىَ عليهِ ..
صاعداً إلى جانبي ..
قالَ :
أمي كانت تحبكَ ..
و تتغنى باسمكَ ..
حتى أني تمنيتُ أنْ ..
أكونَ أنا أنتَ ..
هنا !!
لم أستطعْ التفوهَ بكلمةٍ ..
ألجمني!! حاصرني !!
تنهدتُ .. و أحسستُ بأنَّ عروقي ..
قد ترطبتْ من جديدٍ ..
همستُ في أذنهِ ..
وقد كنَّا وحدَنا ..
أنا أحبكَ ولنْ أنساكَ ما حييتُ ..
رحلَ من عندي وهو لا يريدُ الرحيلَ ..
ثم رفعتُ عيناي من عليهِ ..
ولم أعلمْ شيئاً .. بعدها
فقد أعلنتُ الرحيلَ ..
خلفـها .
همسة آخيــــره
عِنْدَمَا قُـلْتُ لَـكُم بـِأَنَّـهَا قِصَّةُ حُبٍ عَـظِـيمِةٍ لمْ يُـصَدِّقُـنِي أَحَدٌ !!