الوقفة الخامسة والعشرون : القرآن كلام الله غير مخلوق :
قال الله تعالى : {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (88) سورة القصص .
تتحدث الآية الكريمة عن توحيد الله تعالى وألوهيته , وأنه هو الآخر الباقي جل جلاله , فبدئت بالنهي ( ولا تدعُ ) , والمخاطب هو النبي صلى الله عليه وسلم , وهو خطاب خاص يراد به العموم , فهو لجميع العالمين لقوله تعالى : " واعْبُدُوا الله ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً " , ثم جاء إثبات الألوهية الخالصة لله تعالى وحده بكلمة التوحيد (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) .
ثم جاء موضع الاستشهاد وهو قوله : " كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ " , فهذه الجملة العظيمة تفيد أن كل شيءٍ هالكٌ , ومآلُه إلى الفناء إلا الله وحده جل جلاله فهو الباقي , وهو الحي القيوم كما قال تعالى : {اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (2) سورة آل عمران,
فقوله : وجهَه , أي ذاته , أي يبقى هو جل جلاله , وجاء التعبير بالوجه والمراد الذات , كما قال تعالى : {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ , وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} سورة الرحمن .
وقال بعض المفسرين : إن المراد : ويبقى ما أريد به وجْهُه , وهو العمل الصالح .[ تفسير البغوي : 3 / 459 , تفسير ابن كثير : 3/531 ]
والذي يظهر لي أن القول الأول أولى لمناسبة السياق , ولوجود ما يدل عليه وهو آية الرحمن السابقة .
أما السياق فلأن الآية تتحدث عن التوحيد , وإخلاص الله بالعبادة , ولا يستحق هذا الأمر إلا من كان حيا لا يموت سبحانه , ولذا ارتبطت كلمة التوحيد بحياة الله تعالى وقيوميته اللائقة بجلاله وعظمته في أكثر من آية كما في آية الكرسي : {اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ } (255) سورة البقرة , فبعد التوحيد جاء ( الحي القيوم ) , وقوله تعالى {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (65) سورة غافر . فربطَ بينَ الحياة وبين إخلاص الله للعبادة .
قد يقول قائل : ما علاقة هذه الآية بعنوان الوقفة , وهي : أن القرآن غير مخلوق ؟
فالجواب : أن هذه الآية أعطتنا عقيدة ثابتة لا تتزحزح , وهي أن الله تعالى لا يموت , وكل شيء ما سوى الله فهو هالكٌ لا محالة , وهناك آية أخرى أعطتنا عقيدة أخرى تفيد أن القرآن لا يمكن أن يهلك , بل تكفل الله بحفظه : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر , فالله تعالى أخبر أنه حافظٌ كتابه , وهو الذِّكْر , وجاء التعبير بقوله : لحافظون , وهو اسم فاعل دخلت عليه لام التوكيد , واسم الفاعل يدل على الثبات وعدم التغير , ولا سيما أن الجملة مبدوءة بحرف التوكيد ( إنّ ) وقد كررت مرتين في الآية , ودخلت اللام على خبر الثانية , ولم تدخل على خبر الأولى , لأن خبر الثانية وهو ( لحافظون ) قد يدخله الشك في بقائه , فجاء القطع بأنه محفوظ وباقٍٍ إلى ما لا نهاية .
وإذا كان القرآن باقياً غير قابلٍ للهلاك , فهو صفة من صفات الله تعالى , لأن كل شيء سيهلك إلا الله تعالى .
فدل على الربط بين الآيتين على أن القرآن منزلٌ غير مخلوق خلافاً لما يقوله بعض الفرق الإسلامية كالمعتزلة والإباضية .
نسأل الله تعالى الفقه في دينه , وأن يعلمنا ما ينفعنا , وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .