28-6-1429 هـ
الوسط هو مكاني ولست أنا من اختاره لنفسي.. لطالما كان الوسط هو المكان الذي يطاردني في كل مرحلة من مراحل عمري..
ولدت فوجدت نفسي في هذه المنطقة.. لست أكبر إخوتي ولا أصغرهم.. لست المدللة فيهم ولا المنبوذة.. كنت في الوسط فقط.. كشيء موجود لملء فراغ هذا الوسط فقط.. البدايات والنهايات هي الأهم دائماً..
<
...
- صدقيني.. أنا الآن أتمنى لو يعود الزمن بي إلى الوراء.. لأقول لأبي "حاضر" عن كل شيء خالفته به في الماضي.. لا أريدك أن تشعري مثلي بالندم عندما تنظرين للوراء وتتمنين لو أنك تنازلت عن شيء من كبرياءك بدل أن تجعلي منه جداراً يكبر يوماً بعد يوم ويبعدك أكثر فأكثر عن كل من تحبينهم..
- وأنا أتمنى أن يمضي بي الزمن سريعاً ويخلصني من لحظة "الحاضر" هذه وأنا مستعدة عندما أصبح هناك أن أحتمل هذا الشعور بالندم الذي تتحدث عنه..
-وهل تعتقدين أن الـ "هناك" هو زمن لن تحتاجي فيه لهذه الـ "حاضر" التي ترفضينها الآن..
- ولهذا أنا أتمنى أن يمضي الزمن سريعاً.. فما فائدة العمر إن كنا نقضي القسم الأول منه محاولين قول كلمة "لا" ثم القسم الثاني نادمين على قولها.. الشعور بالندم يعني الرجوع للماضي وأنا لا أريد الرجوع للماضي ولا للبقاء في الـ "حاضر" .. فالحاضر بالنسبة لي هو التنازل بحجة انتظار زمن لا يكون فيه "حاضر".. وهذا زمن مستحيل لم يتم اكتشافه بعد.. هناك ماض ومستقبل.. والـ "حاضر" هو الشيء الوحيد الذي يربط بينهما والشيء الوحيد الذي يستطيع أن يقول "أنا موجود".. وكل من يرفض أن يعيش الحاضر هو غير موجود..فكل الأزمنة التي نعيشها فعلاً هي حاضر.. فما فائدة أن أقول "حاضر" الآن من أجل أن يأتي حاضر آخر سأقول فيه أيضاً "حاضر"ومع ذلك لا أشعر بأني موجودة..
- عندما تعيشين "الحاضر" فأنت تحققين وجودك لأنك تحققين السعادة لنفسك قبل أن تمنحينها لأي شخص آخر.. ولن تحتاجي وقتها لانتظار حاضر آخر أكثر سعادة.. السعادة أبسط بكثير مما نتخيل.. غالباً ما تكون ملقاة عند أقدامنا ونصر مع ذلك على النظر للأمام وللمجهول بحثاً عنها بينما الأمر لا يتطلب أكثر من الانحناء قليلاً لالتقاطها.. لو لم يكن الله عالماً بحاجة الإنسان للانحناء وللالتواء أحياناً لما جعل في جسمه مفاصل متحركة .. ولكان قادراً على جعل عموده الفقري أشبه بصليب خشبي يشده للأعلى دائماً.. لا تحاولي أن تكوني شجرة سرو على تلة منعزلة كل ما يمكنها فعله هو النمو للأعلى وحيدة دون حاجة لأحد تستند عليه.. تأكدي أن هكذا شجرة ستكون معرضة أكثر من سواها للانهيار مع أول ضربة فأس فيها..
- هل تعتقد أني سعيدة بهذا الخيار؟ هل تعتقد أنه لا يؤثر بي أن أسمع أحاديثهم وضحكاتهم وصخبهم عبر جداري الفاصل دون أن أستطيع الانضمام إليهم ومشاركتهم ولا حتى منع أصواتهم من الوصول إلي.. أنا فقط لا أستطيع.. سمها ما شئت.. عناد أم كبرياء .. لكني أشعر أن أعضائي كمشاعري متيبسة ولا أستطيع لا التقدم ولا التراجع.. الوسط هو مكاني ولست أنا من اختاره لنفسي.. لطالما كان الوسط هو المكان الذي يطاردني في كل مرحلة من مراحل عمري..
ولدت فوجدت نفسي في هذه المنطقة.. لست أكبر إخوتي ولا أصغرهم.. لست المدللة فيهم ولا المنبوذة.. كنت في الوسط فقط.. كشيء موجود لملء فراغ هذا الوسط فقط.. البدايات والنهايات هي الأهم دائماً..
أخي الكبير كان نباتياً يكره اللحم ويرفض أكله أمام كل الإلحاح والإغراء والاستجداء الذي يعرض له.. أما الأصغر فلو كانت لحوم البشر أقل مراراً لما توانى عن أكلها.. بينما كنت أقف بينهما مشدوهة كقطة منزلية تقبل على أي شيء يوضع في طبقها وتستغرب كيف يمكن لأحدهم أن يرفض نوعاً من أنواع الطعام بينما يصر الآخر على نوع محدد دون سواه بينما كانت تعتقد هي أن الغاية من الطعام هي سد الجوع فقط.. حتى عندما كبرت لم أتعامل مع الطعام كمتعة من المتع وليس لدي طبق مفضل.. كما أحب القهوة الوسط والشاي بسكر وسط أيضاً..
وعندما التحقت بالمدرسة واعتقدت أني وأخيراً سيكون لدي أصدقاء أتساوى معهم فنحن بنفس العمر ومن نفس الجنس وجدت أن الوسط يلاحقني هناك أيضاً.. كان لدي صديقتين مقربتين.. إحداهما قصيرة والأخرى طويلة وكان يحلو لهما أن تجلساني بينهما في الوسط.. الأولى كانت الأكثر ذكاء في الصف والأخرى كانت الأكثر جمالاً.. بينما أترنح أنا في منطقة الوسط.. لا أتمتع بذلك الجمال الصارخ ولا ذلك الذكاء الحاد وحتى تحصيلي الدراسي لم يكن ممتازاً ولا ضعيفاً بل وسط..
في علاقاتي الأسرية لم يكن الأمر مختلف كثيراً.. ولم يكن لدي شعور بالانتماء لأي جهة.. فأهل أبي كانوا يعتقدون أني ككل فتاة لا بد وأن ينطبق عليها المثل وتكون (طالعة لأمها) ولذلك لم يشعروا كثيراً بالارتياح لوجودي واعتبروني عنصر مخابرات مدسوس بينهم لالتقاط أحاديثهم واغتيابهم لأمي فكانوا يضطرون بوجودي لاستخدام لغة الشيفرة الخاصة بهم والتي لم أكن أدري كيف كنت أفككها وأفهم رغم غموضها ورمزيتها أن وجودي غير مرغوب به...
أما أهل أمي فكانوا يؤمنون أكثر بالمثل القائل (خذوا البنات من صدور العمات) فكانت نظراتهم وابتسامتهم الودودة وترحيبهم الزائد بي يخلق لدي شعور المستبد الذي يحاول الآخرون إظهار الود له تجنباً لبطشه لا حباً به.. فكانت معاملتهم رغم إحسانها تخبرني بأنهم مضطرون لفعل ذلك كوني أنتمي للطرف الآخر الذي أحمل اسمه وهو الطرف الأقوى الذي يملك أن يحكم ويتحكم بحياة ابنتهم فكان عليهم الابتسام بوجهي ليس محبة ولا صدقة وإنما من مبدأ أني ابنة صهرهم وهو على أي حال ومهما بلغ من السوء إلا أنه (صهرنا ساتر عرضنا)..
وهذا طبعاً لا ينطبق على إخوتي، فالصبي وضعه مختلف طالما أن (ثلثي الولد للخال).. وهكذا بقيت دائماً وفي كل نزاعاتهم وخلافاتهم المنطقة الوسطى التي يستعد الجميع للتنازل عنها للآخر بينما يتنازعون على باقي الأطراف والمناطق.. كنت دائماً الصفر المحايد في كل معادلاتهم..
أتمنى أحياناً أن لا أحمل أي اسم أو لقب .. أتمنى لو كنت ابنة للشجر وللبحر.. فلا الأشجار تطالب ثمارها بأن تبقى ظلاً لها .. ولا حتى تعترض على رغبتها بالسقوط.. ولا البحر يصب غضبه على الأنهار فيقطع عنها المياه.. البشر فقط هم من يمارسون سياسة الاحتكار..
أما عندما بدأت أفكر بالحب.. وجدت نفسي أمام من لا يحبني ولا يكرهني.. ولم أستطع إيجاد اسم مناسب لمشاعر لا هي حب ولا حتى كره.. فالتجاهل واللامبالاة هي أفعال لا بد وأن يسبقها شعور ما وطالما أنها لا حب ولا كره فلا بد أنها تسمى مشاعر في منطقة الوسط أيضاً..
عندما كانت أحاديث ومواعظ أهل الذكر تمر بمسمعي وهم يتحدثون عن متع الجنة وأهوال النار لم يكن حديثهم عن الجنة يغريني كثيراً ولا حديثهم عن النار يؤثر بي كثيراً.. فلم أشعر يوماً أني جيدة لدرجة أن أستحق الجنة ولا أني سيئة لدرجة دخولي النار.. لكن أكثر ما كان يخيفني هو حديثهم عن منطقة الأعراف.. فأنا أعلم جيداً أني لم أفعل شيئاً في حياتي لأكسب مرضاة ربي وكذلك لم أفعل شيئاً لأستحق غضبه وأنتمي بذلك لإحدى الفريقين.. إما الخاسر وإما الرابح. لذلك كنت أخشى فعلاً أن أكون في الآخرة أيضاً في نفس هذه المنطقة الوسط..
لقد كنت دائماً مجرد تجسيد لعبارة "الحمد لله على أي حال" والتي يقولونها عادة عندما يشعرون أن الحال لن يكون أسوأ ولا أفضل مما هو عليه الآن..
فعندما كنت صغيرة كان عمي يمازح أبي قائلاً عندما تكبر ابنتك لن تجد سبباً لتفرض طلباتك وشروطك على صهرك.. وعندما كبرت واعتقدت أني وجدت سبباً آخر غير الجمال الذي كان عمي يعتقد أنه شرط لازم لفرض الشروط والطلبات والانتماء للفريق الأقوى.. وجدت خالتي، الفائقة الحسن والمتزوجة قبل أن تنهي تعليمها الابتدائي من رجل يصرف عليها كثيراً من المال وقليلاً من العاطفة، تخبرني بأن من سيتزوجك لا شك وأنه سيكون بخيل لدرجة أنه سيبحث عمن تعمل معه وتوفر له ثمن الدروس الخصوصية لأولاده..
- ألا تعتقدين أنك تحملين رأي الناس بك ونظرتهم لك أهمية أكبر مما يجب.. لماذا تجعلين من نفسك سلعة تنتظر تقييم الآخرين لها وما يهمك بتقييمهم لك مادمت تستطيعين تقييم نفسك بنفسك..
- أحتاج تقييمهم لي لنفس السبب الذي كنت تطلب مني لأجله أن أعيش الـ "حاضر" فأهدم بذلك الجدار الذي أبنيه بيني وبينهم.. فكيف تطلب مني أن أتخلى عن إرضاء ذاتي لأجل إرضاءهم ولا تريدني مع ذلك أن أعلم درجة تقييمهم ورضاهم عني..أنت بهذا تعيدني لمنطقة الوسط فلا تريدني أن أنتمي لا لنفسي ولا لهم .. أرأيت أن مشكلتي هي الوسط فقط..
...