[c]
بسم الله الرحمن الرحيم
سيتم التطرق إلى ما يلي ( بإذنه تعالى )
1- المتنبي .. الشاعر المبدع
2- المتنبي .. و رقة الدين ( هل ادعى النبوة - و قفات مع بعض أبياته )
3- النظرة السوية للمتنبي
( المتنبي ..
.. الشاعر المبدع )
المتنبي ....
( كفل الثناء له برد حياته ,, لما انطوى فكأنه منشورُ )
بم يوصف ؟؟ بل بم يعرّف ؟؟
إن هو إلا كما قال عنه الشاعر عبد الله البردوني ..
من تلظّي لموعه كاد يعمى ,, كاد من شهرة اسمه لا يُسمّى
جاء من نفسه إليها وحيداً ,, رامياً أصلهُ غباراً و رسما
حاملاً عمره بكفيه رمحاً ,, ناقشاً نهجه على القلب وشما
خالعاً ذاته لريح الفيافي ,, ملحقاً بالملوك و الدهر وصما
----------
ما اسم هذا الغلام يابن معاذٍ ؟ ,, اسمه ( لا ): من أين هذا المسمى ؟
إنه أخطر الصعاليك طراً ,, إنه يعشق الخطورات جمّا
----------
يبتدي يبتدي ، يُداني وصولاً ,, ينتهي ينتهي ، و يدنو ولمّا
هل يرى غير ماترى مقلتاهُ ؟ ,, ( هل يسمي تورم الجوف شحما ؟ )
----------
التعاريف تجتليه و تغضي ,, التناكير عنه ، ترتدّ كلمى
كلهم يأكلونه و هو طاوٍ ,, كلهم يشربونه و هو أظما
كلهم لا يرونه و هو لفحٌ ,, تحت أجفانهم من الجمر أحمى
حاولوا حصرهُ فأذكوا حصاراً ,, في حناياهمو يُدمِّي و يَدمى
جرَّب الموت محوه ذات يومٍ ,, و إلى اليوم يقتل الموت فهما
----------
هو الشاعر المُجيد .. الفصيح البليغ ..
هو الذي أرَّق الشعر و الشعراء .. و هزّ ببيانه عروش البلغاء .. فدانت له أقلامهم و أطراسهم بالولاء ..
لم يتكلف الشعر و لم يبحث عن اللفظ .. إنما كان اللفظ ينساب رقيقاً سلسالاً .. عذباً .. فهيّج الأشجان و أثار الأحزان .. و نكأ القروح .. و سلب العقول .. بجمال لفظه و حُسن صياغته ..
من لم يعترف به .. فالشعر منه بريء ..
كيف لا .. و هو هو .. من يعجّ شعره بالحكمة مع حسن الصياغة و جودة السبك و قوة المعاني .. فابتعدَ بذلك عن رداءة النظم ..
له قصائد رائقة .. بهية .. قوية .. مطربة ..
لو استعرضتَ ( مطالعها فقط ) .. لطربت .. فكيف بالقصيدة ؟؟
و هاكم بعض هذه المطالع :
حاشى الرقيب فخانته ضمائرهُ ,, و غيّض الدمع فانهلت بوادرهُ
و كاتم الحب يوم البين منتهكٌ ,, و صاحب الدمع لا تخفى سرائرهُ
.. و قوله ..
ما الشوق مقتنعاً مني بذي الكمدِ ,, حتى أكون بلا قلبٍ و لا كبدِ
و لا الديار التي كان الحبيب بها ,, تشكو إليّ و لا أشكو إلى أحدِ
ما زالَ كل هزيم الودق ينخلها ,, و السقم يُنحلني حتى حكت جسدي
.. و قوله ..
أرقٌ على أرقٍ و مثلي يأرق ,, و جوىً يزيد و عبرة تترقرقُ
جهد الصبابة أن تكون كما أرى ,, عينٌ مسهدةٌ و قلبٌ يخفقُ
ما لاح برقٌ أو ترنّم طائرٌ ,, إلا انثنيتُ و لي فؤادٌ شيّقُ
أبني أبينا نحن أهل منازلٍ ,, أبداً غُرابِ البين فيها ينعقُ
نبكي على الدنيا و ما من معشرٍ ,, جمعتهمُ الدنيا فلم يتفرقوا
.. و قوله ..
أتراها لكثرة العُشاقِ ,,, تحسب الدمع خلقةً في المآقي ؟!
( وهو ابتداء ما سُمع بمثله ومعنى تفرد بابتداعه كما يقول الثعالبي )
.. و قوله ..
أحلماً نرى أم زماناً جديداً ,, أم الخلق في شخصِ حيّ أُعيدا
( أظن أن هذا يكفي !! )
و ما كتبناه إنما هو غيض من فيض .. و لو شئنا أن نستخرج الجوانب الجمالية .. و الأبيات الماتعة الرائقة من ديوان المتنبي .. لما خلصنا إلى ذلك .. إلا بدراسةٍ مستفيضةٍ واسعةٍ لا تُكتب في منتدى .. و لا يحتويها كتاب .. و إنما مجلدات بالكاد تكفيها
و قد قال في صباه مجموعة من الأبيات منها ..
بأبي من وددته فافترقنا ,,, وقضى الله بعد ذاك اجتماعا
فافترقنا حولا فلما التـقينا ,,, كان تـسليمه عليّ وداعــا
................
و لعلنا بعد هذه الرحلة الماتعة مع مطالع المتنبي .. نأخذ شيئاً مما قيل فيه ..
و نود أن نورد ملاحظة هنا .. و هي ..
أننا استخلصنا الأقوال من بعض أمهات الكتب .. و البعض الآخر ( و هو الأغلبية ) من دراسات أدبية حديثة .. لكي نطَّلع على ما قيل حديثاً فيه ..
و أظن أن في هذا فائدة أكبر مما لو جعلنا جميع ما ننقله من الكتب المأثورة .. مثل شرح البرقوقي و طه حسين و محمود شاكر و غيره .. و ذلك لأن هذه الكتب يسهل الإطلاع عليها . بعكس الدراسات الأخرى .. مع ملاحظة أننا قمنا بإلحاق اسم الأديب و موضوع بحثه مع كل دراسة ..
من هو المتنبي ؟
يعطيك الشيخ عائض القرني لمحة عن هذا الشاعر الفذّ .. فيقول
( هو الشاعر الذي ذهب إلى الغزل أشجى ، و إذا ذكر الديار أبكى ، و إذا مدح كفى ، و إذا وصف شفى ، و إذا هجا كوى ، و كل هذا دليل على تمكنه ، و قوة ذاكرته ، و خصوبة خياله ، و جودة خاطرة ، و سيولة ذهنه ، و صفاء قريحته )
ثم يتحدث الشيخ عن نرجسية المتنبي ( الطاغية ) التي عُرف بها .. إلا أنه ختم حديثه ذاك بقوله
( و كلما أردنا أن نغضب منه لهذا الجموح الطاغي ، و التعالي المرفوض ، أرضانا بهذا القول الخلاب ، و السحر الجذاب ، و المنطق السالب للعقول فكتنا عاتبين ) إمبراطور الشعراء \ عائض القرني
( و للمتنبي ديوان شعر مشهور ، فيه أشعار رائقة و معانٍ ليست بمسبوقة ، بل مبتكرة شائقة ، و هو في الشعراء المحدثين كامريء القيس في المتقدمين )
ثم يقول
( و قد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي في منتمه قطعاً رائقة استحسنها من شعره ، و كذلك الحافظ ابن عساكر شيخ إقليمه ، فمما استحسنه ابن الجوزي قوله :
عزيزاً سبى من داؤه الحدق النجلُ ,, عياً به مات المحبّون من قبلُ
فمن شاء فلينظر إليّ فمنظري ,, نذيرٌ إلى من ظن أن الهوى سهلُ
جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي ,, فأصبح لي عن كل شغل بها شغلُ
كأن رقيباً منك سد مسامعي ,, عن العذل حتى ليس يدخلها العذلُ
كأن سهادَ الليل يعشق مقلتي ,, فبينهما في كل هجرٍ لنا وصلُ
و من ذلك قوله :
كشفت ثلاث ذوائب من شعرها ,, في ليلةٍ فأرت ليالي أربعا
و استقبلت قمر السماء بوجهها ,, فأرتني القمرين في وقتٍ معا
) البداية و النهاية لابن كثير 11\274
( لقد كان المتنبي شعلة من ذكاء وعظمة من فطنة وآية من عقل، وكانت نفسه ثائرة لا ترى لأحد فضلاً ولا تعترف بعظمة غير عظمتها.
إن أكن معجبا فعجب عجيب ’’’ ما رأى فوق نفسه من مزيد
وعندما يمدح شاعرنا ملكا أو أميرا فإنه لا ينشده الشعر واقفا كما يفعل الشعراء في ذلك العصر، وإنما بجانب الممدوح، أو ربما وقف الممدوح أمام المتنبي إجلالا واحتراما له كما فعل العلوي.
) دراسة (استهزاء المتنبي بسيف الدولة \بقلم محمدالصالح آل إبراهيم )
( و هو صاحب الأمثال السائرة ، و خاتم الثلاثة الشعراء ( أبو تمام و البحتري و المتنبي ) ، و آخر من بلغ شعره غاية الإرتقاء ، وقد أولع بتعلم الشعر من صباه ..
و بالنظر إلى شعره ..
فلا خلاف عند أهل الأدب في أنه لم يبلغ بعد المتنبي في الشعر من بلغ شأوه أو داناه ، و المعري على بعد غوره ، و فرط ذكائه ، و توقد خاطره ، و شدة تعمقه في المعاني و التصورات الفلسفية يعترف بأبي الطيب و يقدمه على نفسه و غيره ..
و من جميل شعره ..
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى ,, أن الكواكب في التراب تمورُ
خرجوا به و الكل باكٍ حوله ,, صعقات موسى يوم دُكَّ الطورُ
حتى أتوا جدثاً كأن ضريحه ,, في كل قلبٍ مُوجَدٍ محفورُ
كفل الثناء له برد حياته ,, لما انطوى فكأنه منشورُ
)
جواهر الأدب 2\177 ( بتصرف )
( كان المتنبي ذا طموح بعيد ، فسما بنفسه عن اللهو ، و المجون ، و كان عبقرياً تتفجر الحكمة منه في شعره ، فتسير كالمثل السائر بين الناس ، و كان فارساً يخوض المعارك ، و رحالة يجتاز المفاوز في لياليها الحالكات ، و عالماً أديباً و هو القائل :
الخيل و الليل و البيداء تعرفني ,, و السيف و الرمح و القرطاس و القلمُ
و افتخر المتنبي بالعرب ، و غالى في ذلك حتى لقب بشاعر العربية ، ومن فخره :
و إني لمن قوم كأن نفوسنا ,, بها أنفٌ أن تسكن اللحم و العظما ) عبد الرحمن البرقوقي - شرح ديوان المتنبي ( بتصرف ) و من روائع الشعر العربي .. عواض العتيبي
( عني العالم العربي بذكرى المتنبي لانقضاء ألف عام على وفاته واستنفد كتاب الضاد صيغ المدح لذلك الشاعر العظيم وأبدوا في سيرته وأخلاقه آراء لم يختلف بعضها عن بعض كبير اختلاف دلت بجملتها على عبقريته كما نبهت على مواطن القوة والضعف في آدابه وطباعه.
) دراسة (أبُو الطيّب المتنبّي \كان عبقريّا، ولكن... \ بقلم الأستاذ: خليل مطران )
( لَقَدْ أَصَابَ اِبن رَشِيق اَلْقَيْرَوَان كُلّ اَلإِصابةِ حِينَ قَالَ في المتنبي: "ملأ الدنيا وشغل الناس". ولقد ذاع اسمه في البلاد وسار شعره سيرورة لم تعرف لشاعر غيره، واهتم العلماء بديوانه فشرحوه فكان من ذلك شروح تجاوزت الأربعين بعضها شملت شعره كله وبعضها انعقدت على المشكل من شعره. قال أبو عبد الله ياقوت الرومي: ولم يسمع بديوان شعر في الجاهلية، ولا في الإسلام شرح هذه الشروح الكثيرة سوى هذا الديوان، ولا تداول شعر في أمثال أو طرف أو غرائب على ألسنة الأدباء في نظم أو نثر أكثر من شعر المتنبي. قال: وكان أبوالعلاء المعري -رحمه الله- إذا ذكر الشعراء يقول: قال أبونواس كذا قال البحتري،كذا قال أبوتمام كذا، فإذا ذكر المتنبي قال:الشاعر )
مِن قِراءة فِي شعر أَبِي اَلطَّيِّب \بقلم اَلدُّكْتُور إإبراهيم السامرائي \ كلِّيَّة اَلآدَاب - جامعة بغداد
( روى محمد بن يحيى العلوي ( ت 390 هـ) وكان ترب المتنبي وجاره بالكوفة ( قال: أخبرني ورَّاق كان المتنبي يجلس إليه قال: ما رأيت أحفظ من هذا الفتى ابن عيدان قط! فقلت له: كيف ذلك؟
فقال: كان اليوم عندي وقد أحضر رجل كتابا، من كتب الأصمعي، نحو ثلاثين ورقة ليبيعه، فأخذ ينظر فيه طويلا فقال له الرجل: يا هذا، أريد بيعه، وقد قطعتني عن ذلك، فإن كنت تريد حفظه فهذا يكون- إن شاء الله- بعد شهر. فقال: فإن كنت حفظته في هذه المدة فما لي عليك؟
قال: أهب لك الكتاب. قال: فأخذت الدفتر من يده فأقبل يتلوه حتى انتهى إلى آخره، ثم استلمه فجعله في كمُّه ... " )
هذا و إلى هنا ننتهي من ( المتنبي الشاعر المبدع )
و نبدأ بنقطة جديدة ألا و هي ..
( المتنبي .. و رقة الدين )

[/c]