موقف الإسلام من الشعر في صدر الإسلام
يبدو لي أن هذا العنوان الأقرب للصحة من خلال قراءتي للردود ، وهذا يظهر لي تحديده
لم يمنع الإسلام في عصر صدر الإسلام الشعر بل وضع حدوداً فكل ما وافق الشريعة الإسلامية فهو شعراً ، وكل ما خالفها فهو من جملة لغو الكلام إن لم يكن خبثه . والآية الكريمة تبيّن بجلاء الصورة الحقيقية للشعر الإسلامي فهي تضع الشعر محدود الرؤية من خلال الدعوة الإسلامية والدعوة إلى نداءات المجتمع المسلم القائم على الأخلاق الفاضلة والمحبة الأخوية . ولم يكن للشعر الجاهلي نصيب الأسد من تلك الدعوات بغض النظر عن ما كانت تعج به بعض القصائد من مكارم وعادات أقرها الإسلام ودعا إليها .
وفي استقراء لحالة الأدب وبخاصة الشعر منه نجد أن البعد عن خط الدين والتدين يكسب النص بعداً آخر بل ويكسبه جمهوراً أوسع ، وإن جاز التمثيل فإن الشعر العامي في بداياته كان أجمل من الشعر الحالي وذلك لبساطة المعاني وجمال الأساليب وعندما تقرأ لشاعرٍ مثل محسن الهزاني أو بندر بن سرور تجد أن الفرق واضح وجلي عن غيرهم من شعراء الوقت الحالي ، وهذا يثبت بلا شك أن الشعر واحد وإن اختلفت اللغة فهو نابع من نفسٍ واحدةٍ والإنسان هو ذاته مع غيره ، وعندما كان امرؤ القيس شاعراً في العصر الجاهلي كان لشعره تأثيراً تعجز عنه آلاف الخطب الرصينة اليوم .
في عصر صدر الإسلام لم يكن للصحابة الذين يقولون الشعر تأثيراً كتأثير حسان بن ثابت رضي الله عنه ، ولكنهم بقوا على أشعار هي أشبه بالأراجيز الحماسية وتخلوا عن كثير من أنواع الشعر ، وحتى أبيات الوصف لم يكن لها نصيباً عندهم . فقد كان جل تركيزهم على القصائد التي تبعث الجهاد والمدافعة عن الدين هي الأبرز ، وإن وجد شعر آخر فهو متعلق بمدح الرسول صلى الله عليه وسلم كبرديّة كعب بن زهير رضي الله عنه . وعلى ما يبدو أن امتلاء الجوف قيحاً خير من امتلائه شعراً كان الحاضر في نفوس الصحابة رضوان اله عليهم .
ورغم أن الهجاء سلاح جديد إلا أن الغالبية من شعراء مرحلة صدر الإسلام لم يعطوا هذا الجانب نصيبه كاملاً عدا بعض محاولات حسان بن ثابت رضي الله عنه . وهذا يؤكد أن الصحابة ابتعدوا عن الشعر ، وكما هو معروف فإن الشعر يحتاج إلى الدربة والمواصلة وفي حالة الانقطاع يصيب الشاعر جموداً خيالياً هذا إن لم يصبه توقفاً وكرهاً للشعر ، وهذا الشيء وجدناه حاضراً عند كثير من الشعراء حيث تركوا الشعر وأطنابه ، وطرقوا أبواباً جديدةً لم يبدعوا يها على ما كان شعراء العصر الجاهلي مبدعين فيها .
لم يصل شاعر في عصر صدر الإسلام لبيتٍ من أبيات العمى بشار بن برد :
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ….. وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
أو قول أبي تمام في فتح عمورية :
لقد تركت أمير المؤمنين بها ….. للنار يوماً ذليل الصخر والخشب
غادرت فيهم بهيم الليل وهو ضحى …. يشله وسطها صبح من اللهب
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت …… عن لونها أو كان الشمس لم تغب
ضوء من النار والظلماء عاكفة … وظلمة من دخان في ضحى شحب
فالفتوحات الإسلامية كفيلة باستنباط مثل هذه الصور ولكن مثل هذا الأمر لم يحدث ، وهذا يثبت بجلاء أن الشعر في عصر صدر الإسلام تراجع خيالياً وأسلوبياً .
ولا يعني كلامي هذا أن خلو عصر صدر الإسلام من الشعر ، فقد كان للشعر أهله ولكنه ظل خافتاً ومقصوراً على معانٍ معينة تدور جميعها في فلك الدعوة الإسلامية . وربما يكون للشعراء عذر في ذلك .
وفي قول امرئ القيس :
أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل وإن ….. كنتِ قد أزمعت صرمي فأجملي
في ذلك العصر تمنت كل الفتيات أن يكون اسمها فاطمة .
وقد قال عمر بن أبي ربيعة :
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد …… إنما العاجز من لا يستبد
أصبحت هند مضرب المثل في إبطاء الوعود .
وعندما قال جميل بثينة :
علقت الهوى منها وليداً فلم يزل …إلى اليوم ينمي حبها ويزيد
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي ….. من الحب قالت ثابت ويزيد
وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به ….مع الناس قالت : ذاك منك بعيد
فلا أنا مردود لما جئت طالباً … ولا حبها فيما يبيد يبيد
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها … ويحيى إذا فارقتها فيعود
كانت بثينة مضرب الوفاء لكل العشّاق .
وعندما قال مجنون ليلى :
أمر على الديار ديار ليلى ….أقبل ذا الجدار وذا الجدار
وما حب الديار شغفن قلبي …. ولكن حب من سكن الديار
أصبح لاسم ليلى شهرةً لا يضاهيها شهرة .
ونزار الذي كانت تردد له زوجته بلقيس :
الحب مواجهة كبرى
إبحار ضد التيار
أنا لا أومن ف حبٍ
لا يحمل نزق الثوار
ولا يكسر كل الأسوار
لا يضرب مثل الإعصار
آهٍ .. لو حبك يبلعني
ويقلعني مثل الإعصار
كل هذه النماذج توقّفت في عصر صدر الإسلام ، ولخفوت الشعر عذر لأن انبهار المسلمين بالقرآن الكريم كان قوياً .
أشكر أخي وعزيزي أبا الطيب على إثرائنا وعلى هذا الطرح الرائع
تحياتي للجميع
التاج