مرحبا بديم، مشرفتنا القديرة،
البعض يراها اسقاطات، وآخرون يرونها اشراقات،
ولكليهما أحرف تقرأ، ومعنى يفهم،
أما (ربـما)،
فمتعك الله بعلمك، ولا أدخل في استدراجات، وتحليلات اقتصادية،
والضباء في الغالب أنها لا تنقاد لأحد، وإن أنقادت فالذي يقودها يكون منها وفيها،
ومعها في الحزن والسهل،
وفي الوادي، وبين الصخور والأشجار، وعلى الأعادي،
يمنع عنها من هو على شاكلة أبي مح ماح، وغلمانه،
ولكنها اليوم لا تملك إلا الهروب فقط، لأنها لم تعد الأرض أرضها، فقد حوتها المحميات، والمزارع، وهلم جرا، كان الله لنا ولها، عوناً وسنداً، وحافظا،
والذي أريد فضلاً لا أمراً أن تقرأي حكاية أبي مح ماح مرة أخرى، فهي من باب ضرب الأمثال، ومن باب قالت العرب، ولا يحكم عليها بصدق ولا كذب، يؤخذ صحيحها ويرد سقيمها،
فقد تم ربط بعضها ببعض، وضم أطرافها، وجمع شتاتها، فهي (نسخة جديدة مصححة، منقحة)، كما يقول أصحاب المحلات التجارية التي تبيع الكتب، ويزيدون أحياناً (فيها زيادات مهمة):
بسم الله الرحمن الرحيم
بلغ أبو مح ماح من الكبر عتياً، وحصل من الأموال ما يحثى حثواً، ومن الذهب ما يشدخ بالفؤس شدخاً، فلا ينقسم بالسوية، لصلابته، وضخامته،
ولم يبق له من العمر كالذي مضى، فقد دنت شمسه من المغيب، وبات رميه يصيب شؤاً ويخطيء دوماً،
فسلاحه خاب، وظهره عاب، وأحناكه ترتاب، لكنه ما زال مفتوناً، مولعاً، مشتاقاً،
به وله الكناري، وأنين النواجي، ولوعة الشوادي،
إلا أنه لم يعد له بالناس وأحوالهم، ومخالَطِهم حسن تدبير، ولا رأي مستنير،
فأصبح يقضي أوقاته في مزرعته التي أنشأها حديثاً، وجلب إليها أنجب وأعرب وأبهج آرام الدنيا، ما بين شدن، ومهاة، وجآذر، وريم،
وأطلقها وانطلق معها بين كرّ وفرّ، وضرّ وسرّ، يرقبها بالنظر، ويرعى شؤنها، ويغالبها وتغلبه دوماً،
يأنس بمداعبتها، وملاعَبها، يمسحها بكفه، وأحياناً يقعدها في حجره ويدخل إصبعه بين فكيها لترضعه، يغررها ويدللها لتسكن وتركن إليه، وتألفه، حتى أصابت إصبعه الآكلة، من كثرة الرطوبة واحتكاكها بفكي الآرام، فمنعه الأطباء من فعل ذلك خشية سريان الآكلة في سائر جسده، فامتنع (مكرهاُ لا بطل) ولم يعد يدخل أصبعه في فم الآرام، واكتفى بإقعادها في حجره واضعاً خده على عاتقها، يشمها، ويقبلها، تفيض منه مشاعر الحب والوجد والهيام، حتى إن عيناه لتسكبان الدمع من فرط التعلق وخشية الفرآق، وحسرة على خبو الشهاب، وكل النشاب،
ووصل حبه وتعلقه وهيامه بالآرام إلى إدخالها معه في فراشه،(كما يفعل الأربيون بكلابهم)، يحظنها، ولا ينام إلا وهي بين ذراعيه، حتى أن فرائسها لترتعد، وأنها لتبعر على السرير، من شدة الخوف، وقوة ضغط أبو مح ماح عليها، وهو لا يبالي، لأنه يعيش معها سكرة الهوى، وذروته، وحدة الوصال وغايته، فلا هم له إلا أن تغفو عيناه والأرام تلاصقه، بل لم يعد ينم إلا إذا كانت بجانبه، جزاء لا يتجزأ من سرير نومه، كفراشه، ولحافه، ووسادته، وقد توعد غلمانه ألا يخرجوها حتى يعلو أزيزه، وتنزوي أساريره، وتغشاه جلجلة، وتنتابه حشرجة،
وهي العلامة لهم على استغراقه في هلاكه المؤقت، غارقاً في شخير، وقرقرة، وصفير، حتى إذا ضربت الشمس بأطنابها في كبد السماء أفاق، وليته ما افاق، ليته ظل في حشجرة، ونعاق،
ثم استوى قاعداً على أربع قعدة الجحش، وانتفض انتفاضة الهرش، فثارت منه غمامة سوداء بها أنتن ريح على وجه الأرض، وبعدما زالت الغمامة أقبل غلمانه نحوه يتسابقون، معهم الشادن يجرونها جراً قد أصابها الذهول وعلاها الذبول، وتحجرت مقلتاها بالدمع، حاملين له إفطاره، فيقعدان الشدن والفطور قَبَالَتَه،
فلما رأى ما رأى تمغَّط على أربع تمغُّط الهر مع صوت بين الشرقة، والنقة، وتبسم تبسماً يجلب الحزن، ويكشف العفن، ثم جرّ الشَّدَن وألقى بها في حجره، ثم مد يده، فأكل وشبع، وشرب وامتلاء كرشه، وتجشأ، وتمخط، وضرط ضرطاً، عجيباً غريباً، له صوت مدو، لم يبق طائر في المزرعة إلا فرّ، ولا دابة إلا صالت وجالت فزعاً من شدة الصوت وتقريعه، (فسبحان من خلق أبا مح ماح، وخلق سائر الناس)، وخلق له هذا الحب الخاطف، والإحساس الجاحف، والشعور الناطف، وجمعها له يخطف بها الآرام ويجحفها بذراعيه يكاد يسكر أضلاعها، ثم ينطف بها من فمه مع لعابه الذي يتحدر على جسد الأرام ويسيل إلي ركبها، ويبرك بها على الأرام بروك الفيل، فتغمرها غمر الطين،
حتى أنه يكاد ينفتق من أبي مح ماح صدره، وتنفجر رأسه، وتـتـشحط يداه، وتنعقد الأوردة في أرجله، إمتلاءً بها، تجول وتصول بين أضلاعه، نحو الضباء الملاح، التي يجرها جراً تحت ولايته، ويرغَبُها في سلطته لتحيا بكنفه، فتشقى بأشيمطها البطاح، الذي يبطحها بالليل، ويجلدها في الصباح،
وكما قيل : (لكل بطاح من الناس يوم بطوح)، فأي يوم بطوح سيبطح به صاحبكم أبا مح ماح، هذا ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا، لكن الضباء أصبح لها إدراك، وهي وحدها تدرك أن يومه البطوح قادم لا محالة، وأنه سيبطح كما بطح من هو أشد منه جحفاً، وبطحاً، وفتكاً،
لأنه بات عندها عملة عتيقة متآكلة، ثقيلة متهالكة، ولى عهدها وانتهى زمنها،
وجها الأعلى مبهرج مزركش، مطلي بالألوان الزاهية، تراه الضباء فتغتر، وتقترب منها فتجر إلى كماشته، التي لها كلاّب يترك بالجسد أثر يبقى ولا يندثر، فتلقى تحت وطأته، يدوسها بعقبه، ويركلها بقدمه، محلوبة، مسلوبة، مغلوبة، طوقها أغيلمة أبي مح ماح بمخالبهم كيما تَقُرّ، وترضى وتسلم، ولا تفر،
ووجها الأدنى، لؤم أبي مح ماح الخاسر، وجشعه الماكر الذي أتى على الباطن والظاهر، فهو ذو طبع كاسر، ينتابه ضرب من الجنون، وحدث من العفون، وتصيبه حالة إطباق، وإغلاق، وترياق، عندما يرى الضباء مجتمعة متآلفة مترادفة، لصلاح أمرها، وحماية صغارها، الله أعلم ما سبب ذلك العي الذي يصيبه، وهذا البغي الذي يجعله يجلدها جلد الحجاج، ويفرقها تفريق السبع للنعاج، عندما يراها مجتمعة متآلفة، وهي لا تجتمع إلا بحثاً عن أرض بها مستراح، وعن المرعى والمشرب والنكاح، ليس لها مخالب فتغرزها، ولا أنياب تفرس بها، تريد أن تحيا كما حيي دواب الأرض جميعاً،
لكن أبا مح ماح لا تقر له عين، ولا يهنؤ له خاطر، إلا إذا رأى كل ظبي وحده ليس حوله إلا الصخور، أو الأشجار ، أو الرمال، هذه أجمل صورة يراها في مزرعته، وألذ وأطيب منظر يبصره في ذلك اليوم، بهما تطيب نفسه، وتمتع روحه، ويطمئن، وينام قرير العين مرخي الجفن، قد انفتح منه كل مخرج وصرّ، وتعاركة يداه، واضطربت جوانبه، وأرجله تعتر، وهذه هي العلامة الدالة على أنه بات تلك الليلة غير رضي، ولا مرضي، لأن الضباء أنهكته، وأشغلته، وكرهته، وأحدثت بتجمعها، فوضى، وخلخلة، وبلبلة، فعاقبها بالتفريق، والتشتيت، والشرذمه،
فأصبحت تخافه وجفلت منه، ولم تعد تألفه، لأن طبعها التألف، والاجتماع، والترادف، وهو لا يريد لها ذلك، لا يريد لها إلا التفرق والتخالف،
فلا تحقق له ما أراد، ولا بات مألوفاُ محبوباً بينها، ولم تعد تنخدع بذاك الوجه المزيف الملون المزركش، لأنها علمت الحكاية، وفهمت الرواية، وأيقنت بقرب النهاية،
نهاية أبي مح ماح الذي اتقى بأشر مما فر منه،
فوقع في شر النظرين، وهو الهروب من الناس ومعايشتهم ومكاشفتهم بالمكث في مزرعته،
والنظر الآخر السعي لتفريق الضباء وتشتيها،
ووقع أيضاً في سوء العاقبتين، وهما العزلة عن الناس وواقعهم، وحصول الجفوة بينه وبين الناس،
ثم العاقبة الآخرى نفرة الضباء منه وعدم ألفه،
فلا أحسن مع الناس، ولا مع الضباء في مزرعته، فجمع بين شريين وسوأتين،
ولا يجمع الله لمؤمن بين ثقلين، ثقل في الجثة، وثقل في النفس،
جعلها الله على النفوس خفيفة، ظريفة، طريفة، بها أنس، ومتعة، وفائدة، وعبرة، وهي جانب من حياة صاحبكم أبو مح ماح، وهناك جوانب كثيرة، وزوايا منفتحة وحادة مثيرة، ستكشفها لنا الأيام القادمة،
وعسى أن تكون أخيرة إن شاء الله،
،،، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته...